واشنطن تحتاج للانضمام للشركاء الدوليين لوضع إستراتيجية إقليمية شاملة وتطبيقها بالمنطقة
تزامنًا مع مناقشة الكونجرس الأمريكي لملف تنظيم القاعدة في مصر والمنطقة، رصدت "الوطن" ورقة بحثية لإستراتيجية، أعدها جوشوا بورجيس، وهو مقدم في القوات الجوية الأمريكية وزميل معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى.
قالت الورقة، إن عدم الاستقرار المزمن أصبح من السمات المعرِّفة في جميع أنحاء منطقة الصحراء الكبرى، حيث يؤثر على كل شيء بدءًا من الأمن وانتهاءً بالأوضاع الاقتصادية الاجتماعية وحقوق الإنسان، وفي الوقت الذي يرى فيه العديد من السكان المحليين أن الولايات المتحدة آخذة في الانفصال عن المنطقة، يعمل الجهاديون والمقاتلون الأجانب الناشطون في المنطقة والعائدون إلى أوطانهم من ليبيا وسوريا على إشعال نار التطرف العنيف، وكي تتم السيطرة على تلك النيران، تحتاج واشنطن إلى الانضمام إلى الشركاء الدوليين والإقليميين لوضع إستراتيجية إقليمية شاملة وتطبيقها.
أرضية مهزوزة
يمثل التقلب السائد في شمال إفريقيا ومنطقة الساحل، تهديدات كبيرة على المصالح الفرنسية والأوروبية الحيوية، وسوف يؤدي موقع المنطقة إلى ربطها بشكل متزايد بالمصالح العالمية الأوسع نطاقًا، ويأتي الاستقرار على رأس تلك المصالح طويلة الأجل على الصعيدين الوطني والإقليمي على حد سواء، ولهذه الأسباب وغيرها، تمثل المنطقة مصدر قلق متنامٍ للولايات المتحدة.
وعلى مدار العامين الماضيين، لم تتحقق إلى حد بعيد الآمال بأن تُفضي انتفاضات "الربيع العربي" إلى ديمقراطية يافعة مستقرة، فبدلاً من ذلك، كانت الهشاشة والشقاق التي جعلت المساحات غير الخاضعة للحكم تنتشر انتشار النار في الهشيم في دول ما بعد الحقبة الشمولية، وفي غياب سياسة العصا الغليظة لوأد الشقاق أو فرض سيادة القانون وتوزيع الموارد، توفر تلك المساحات أرضًا خصبة لردة فعل من قبل الإسلاميين.
ما تواجهه دول شمال إفريقيا من اضطرابات جيوسياسية سيؤدي إلى تشجيع الفصائل التي تستخدم العنف
وللأسف، يتلقى المتطرفون الذين يستخدمون العنف تدريبات قيِّمة وخبرات قتالية في ليبيا وسوريا، حيث تفيد التقارير، أن عدد المقاتلين السُّنة الأجانب يصل إلى 10.000 شخص، كما أن عدد الشيعة الأجانب الذين يقاتلون لصالح نظام الأسد، بما في ذلك "حزب الله"، قد يصل إلى 10.000 مقاتل إضافي"، ومع عودة هؤلاء الجهاديين الذين زادت المعارك من تشددهم إلى أوطانهم، سوف يجدون شعوبًا محرومة ومستاءة على نحو متزايد تكون أكثر عرضة للأيديولوجية المتطرفة، ما يمهد الساحة لصحوة المتطرفين، وهو أمر ينذر بعواقب وخيمة طويلة الأجل.
قوس الاضطرابات
تواجه معظم دول شمال إفريقيا ومنطقة الساحل حاليًا أزمات بدرجات متفاوتة، فالوضع الذي يغذيه تطرف الراديكاليين، وسوء الإدارة، والانقلابات، والاضطرابات الاجتماعية، يشير إلى اضطرابات جيوسياسية عميقة لن تؤدي سوى إلى تشجيع الفصائل التي تستخدم العنف.
ولا تزال تونس ما بعد الثورة، المتفائلة فجأة بعد الموافقة مؤخرًا على دستور جديد، تكافح للتوحد حول هوية مركزية. وقد أدّت الاضطرابات السياسية وعدم اليقين إلى تباطؤ اقتصادي حاد، كما أن مسارات أعمال التهريب الجنائية تنتعش في جنوب البلاد، وعلاوة على ذلك، لا تزال الجماعة المتطرفة "أنصار الشريعة" تزدهر وتكسب مؤيدين على الرغم من تصنيفها كمنظمة إرهابية وتم وضعها تحت المراقبة على نطاق واسع.
وفي الجزائر، فإن فترة الولاية الرابعة للرئيس عبدالعزيز بوتفليقة (المريض) والمسبب لخلافات تبدو حتمية لا محالة، الأمر الذي يزيد من احتمال قيام اضطرابات كبيرة بعد انتخابات أبريل. ولا يزال النزاع حول منطقة الصحراء الغربية في حالة غليان، مما يعيق كافة أوجه التعاون بين الجزائر والمغرب.
من جانبها، عملت المغرب على الحد من نفوذ الإسلاميين بمهارة وبراعة وغالبًا ما حجمت الإرهاب الداخلي، إلا أن عزلتها الجغرافية وإقصاءها من التحالفات الإقليمية الكبيرة قد يُحد من نفوذها وقدرتها على العمل مع الأطراف المتعددة.
وفي غضون ذلك، وبعد عام واحد من تخليص مالي من براثن تمرد مدمِّر، لا تزال البلاد محاطة بثغرات اجتماعية وسياسية وأمنية عديدة، ويجب عليها استضافة قوات حفظ السلام الدولية في المستقبل المنظور.
وفي الشمال الجامح، تمكن تنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" من البقاء عقب تدخل كل من فرنسا والإتحاد الإفريقي ومن المرجح أن يسعى إلى إعادة تأكيد نفوذه قريبًا.
وأخيرًا، تعاني ليبيا من انقسامات قبلية وعرقية تؤدي إلى انشقاقها، وكذلك من نقص في التكنوقراط المتمكنين، ولولا الجهود الدولية لإرساء الاستقرار بعد سقوط معمر القذافي لكانتا بنغازي وطرابلس في طريقهما لأن تصبحا مدينتين مشابهتين لمقديشو ولكن على البحر المتوسط، فحدود الدولة غير الخاضعة للسيطرة هي أساسًا عبارة عن مناطق تجارة حرة لتهريب المقاتلين من ذوي الخبرة والأسلحة إلى المناطق المجاورة غير المستعدة جيدًا للتعامل مع عمليات انتشار من هذا القبيل. وإذا استمر المتطرفون بدون رادع فسوف تزدهر تحركاتهم وتؤدي حتمًا إلى توسيع نطاق أهدافهم.
لماذا هناك أهمية في زيادة الانخراط؟
لدى الولايات المتحدة مصلحة دائمة في تعزيز الأمن البشري، كما أن أكثر من ربع المساعدات الخارجية الثنائية التي تقدمها الولايات المتحدة يذهب بالفعل إلى إفريقيا جنوب الصحراء. إلا أنه لا تزال هناك فجوات كبيرة في مجال الرعاية الصحية والحوكمة والتعليم والتدريب على العمل، كما أن الاستثمارات في هذه المجالات ستتوقف ما لم تتم معالجة القضايا المتعلقة بالأمن والاستقرار.
وفي الوقت الراهن، ترتفع التهديدات الأمنية للولايات المتحدة ومصالح شركائها دون أي مؤشرات على الانحسار. ورغم أن التقديرات الاستخباراتية تشير إلى أن الجماعات الإرهابية في المنطقة لم تستهدف موطن الولايات المتحدة، إلا أن وقوع العديد من الهجمات المميتة ضد أهداف دبلوماسية أمريكية في إفريقيا ينذر بتهديدات أكبر في المستقبل. وإذا لا تشكل بنغازي مثالاً تحذيريًا كافيًا، فقد خططت "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" و"أنصار الشريعة" و"بوكو حرام" ومختلف الجماعات الإسلامية العنيفة الأخرى، القيام بالعديد من الهجمات ضد السفارات الأجنبية والمنظمات غير الحكومية والمصالح التجارية في السنوات الأخيرة، وقد أعربت جميعها عن عزمها على الاستمرار في ذلك.
وربما الأمر الأكثر إثارة للقلق، هو أن هناك نحو 1000 من المتطرفين من شمال إفريقيا الذين يقاتلون الآن أو قاتلوا سابقًا في الصراع السوري، وفي ظل عودة الكثير منهم إلى ديارهم وتمتعهم بالمزيد من الخبرة والمصداقية والالتزام، فقد يوجهون اهتمامهم إلى الحكومات الإقليمية الشريكة، وأوروبا، وحتى الولايات المتحدة، وهذه احتمالية مقلقة في الوقت الذي لم "تتمكن" أي دولة في منطقة عبر الصحراء من إحكام سيطرتها الكاملة على حدودها أو على الجماعات المتطرفة النشطة داخلها وفيما بينها.
ولا ينبغي إغفال الاعتبارات الاقتصادية كذلك، فالتجارة الأمريكية الحالية مع المنطقة محدودة، كما أن تقلص اعتماد أمريكا على مصادر الطاقة الأجنبية يعني ضعف الحاجة إلى الغاز الطبيعي الجزائري والنفط الليبي. بيد أن هناك فرصًا جديدة يمكن أن تظهر مع نضج الأسواق، وعلى سبيل المثال، فإن الصين استغلت الأمر حيث بلغ حجم التجارة الصينية في جميع أنحاء إفريقيا ما يقرب من 200 مليار دولار في العام الماضي.
وقوع العديد من الهجمات على أهداف دبلوماسية في المنطقة ينذر بتهديدات أكبر في المستقبل
الجميع من أجل الفرد والفرد من أجل الجميع
في أواخر العام الماضي، أعلنت فرنسا عن إعادة تنظيم قواتها العسكرية في الصحراء والساحل على نحو يتيح تواجدًا إقليميًا أكثر قوة، ردًا على تزايد التهديدات المتطرفة. وأظهرت فرنسا بالفعل عزمها في الأشهر السابقة خلال عمليات التدخل في مالي وإفريقيا الوسطى. بيد أنه رغم قيام الولايات المتحدة بتوفير المساعدات اللوجستية لتلك الحملات إلا أنه ينظر إلى واشنطن على نطاق واسع أنها تحول تركيزها الإستراتيجي بعيدًا عن شمال إفريقيا.
وهذا لا يعني أن واشنطن تجاهلت أمن المنطقة. فعلى سبيل المثال، تقوم وزارة الخارجية الأمريكية بتوجيه "الشراكة المعنية بمكافحة الإرهاب عبر الصحراء الكبرى" التي تشارك في تنفيذها عدة وكالات، بهدف مكافحة الأيديولوجيات المتطرفة التي تعتمد على العنف، ومن أجل بناء قدرات أمنية إقليمية عبر مجموعة من البرامج المرتبطة بالتنمية والدبلوماسية والأمن. وقد حققت المبادرة بعض النجاح، لكنها غالباً ما تواجه متاعب بسبب الارتباك البيروقراطي وهي تخضع حاليًا لمراجعة إستراتيجية.
ومع وجود المحيط الأطلسي كحاجز أمان، تستطيع الولايات المتحدة التنازل عن بعض المسؤولية لشركائها الأوروبيين، كما أن فرنسا على وجه التحديد تحافظ على علاقات ما بعد فترة الاستعمار مع معظم دول إفريقيا الفرانكوفونية. لكن ذلك التاريخ ذاته هو الذي يجعل التدخل الفرنسي مثيرًا للجدل. وتستطيع واشنطن من خلال توسيع انخراطها أن توفر مانعًا ضد التصورات بوجود تدخلات فرنسية مع الاستمرار في التعاون بشكل وثيق مع باريس.
وقبل وصول الرئيس هولاند في زيارة إلى الولايات المتحدة، التقى وزير الدفاع الفرنسي جان إيف لودريان مع وزير الدفاع الأمريكي تشاك هيجل في البنتاجون الشهر الماضي. وفي بيانهما المشترك بعد الاجتماع، تحدث لودريان عن إقامة "لجنة مشتركة رفيعة المستوى" لإجراء مزيد من المناقشات حول التعاون في أفريقيا. ينبغي أن يكون هذا مجرد بداية للجهود المنسقة الأوسع نطاقًا. على سبيل المثال، إن التزامن الدقيق لبعثات تدريب قوات الأمن وتجهيزها سوف يعزز بقوة من القدرات الإقليمية، كما أن برامج الحوكمة والتطوير التكميلية يمكنها أن تساعد على تحسين الظروف التي توفر حاضنات للتطرف. وربما الأمر الأكثر أهمية هو أنه يتوجب على الولايات المتحدة تطوير علاقات وثيقة لتبادل المعلومات الاستخباراتية من أجل تحديد وتتبع موجات المقاتلين الأجانب المتدفقين إلى خارج سوريا وليبيا.
ومع التقليص الحتمي لنفقات الدفاع وزيادة أهمية التحالفات الدولية، ينبغي على واشنطن أن تتبع نهجًا متماسكاً متعدد الأطراف تلعب فيه "منظمة حلف شمال الأطلسي" دوراً أكبر. وخلال منتدى عُقد في "مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية" في يناير، قال عضو مجلس الشيوخ الأمريكي كريستوفر ميرفي "ديمقراطي من ولاية كونتيكيت": "إذا تجاهلنا الصراعات الإقليمية والمناطق غير الخاضعة للحكم بشكل متزايد "في إفريقيا"، فإننا وأوروبا سوف نتحمل مخاطر وتبعات ذلك". وفي المناسبة نفسها، دعا هو والسيناتور جون ماكين "جمهوري من ولاية أريزونا" إلى انخراط "منظمة حلف شمال الأطلسي" بصورة أكثر والتزام الولايات المتحدة بتدريب القوات الإفريقية وتجهيزها بشأن مهمات مكافحة الإرهاب ومراقبة الحدود.
توصيات سياسة
تستطيع واشنطن أن تبدأ في طمأنة شركائها الدوليين، حول التزامها بحفظ الاستقرار والأمن في منطقة عبر الصحراء من خلال القيام بما يلي:
ـ استخدام البيان المشترك بين أوباما وهولاند للتعهد بزيادة الدعم الفرانكو أمريكي "ثلاثي الأبعاد" (التنمية، والدفاع، والدبلوماسية). وفي افتتاحية مشتركة لهما في صحيفة واشنطن بوست في 10 فبراير، روّج الزعيمان للجهود القائمة في إفريقيا، بما في ذلك المساعدات الأمنية والتنمية. يجب أن يعتمد البيان المشترك عقب الاجتماع على أخذ رؤية من الافتتاحية لسرد تفاصيل التعاون المستقبلي.
ـ الالتزام بالعمل بشكل أكثر قربًا مع المنظمات الإقليمية والدولية، بما في ذلك الاتحاد الإفريقي والاتحاد الأوروبي.
إذا استمر المتطرفون بدون رادع فسوف تزدهر تحركاتهم وتؤدي حتما إلى توسيع نطاق أهدافهم
ـ دعوة "ناتو" لزيادة تواجده ومساعداته في إفريقيا، ووضع الارتباط في المنطقة على رأس جدول أعمال قمة "منظمة حلف شمال الأطلسي" في سبتمبر.
ـ تبني برامج تنمية طويلة الأجل تركز على الاستثمار وتفضله على المنح التقليدية.
ـ تعيين مبعوث خاص لمنطقة عبر الصحراء يتمتع بصلاحية الوساطة في الخلافات التي تنشأ بين الوكالات والإشراف على وضع إستراتيجية محدّثة ومتكاملة لمكافحة الإرهاب العنيف وتعزيز الاستقرار. ومن شأن ذلك أن يُحد من الحواجز البيروقراطية أمام جهود الحكومة الأمريكية المتكاملة تجاه هذه القضايا، ولن يؤدي أي من هذه الإجراءات إلى إنهاء التطرف العنيف في المنطقة بين عشية وضحاها، لكن ينبغي على واشنطن أن تنتهز الفرصة الحالية السانحة، للتفكير والعمل مع الأطراف المتعددة وإظهار عزيمة مستقبلية لحماية مصالح الولايات المتحدة والحلفاء.