د. أحمد الخميسي
" لماذا أكتب" اسم كتاب يشتمل على مجموعة مقالات للروائي العظيم جورج أوريل صاحب رواية "العالم 1984"، ورواية " مزرعة الحيوان" وغيرها. وفي الروايتين اللتين جلبتا الشهرة العالمية إلي الكاتب بلور جورج أوريل عداءه بإخلاص وحرارة للشمولية أينما كانت، وصوب سهامه إلي النظم الستالينية والنظم الرأسمالية بقدر ما جسدت تلك النظم – هنا أو هناك – الشمولية التي عدها أوريل خطرا على التطور والحرية.
وفي المقالات المختارة لجورج أورويل يطبق أورويل منهجه النقدي الذي يرتكز بوضوح إلي افتراض أن كل كاتب هو" بشكل ما داعية سياسي. وأن موضوع الكتابة والصور وحتى الحيل الأسلوبية محكومة في المطلق بالرسالة التي يحاول الكاتب نشرها". لهذا يصرح أورويل بقوله " أكثر ما رغبت في فعله خلال الأعوام العشرة الماضية أن أجعل من الكتابة السياسية فنا ، وعندما أجلس لكتابة كتاب أكتبه لأن هناك كذبة ما أريد فضحها ، حقيقة ما أريد إلقاء الضوء عليها". وفي ذلك السياق يقول أورويل إنه لا يوجد كتاب " يخلو من تحيز سياسي. وحتى الرأى القائل بأن الفن لا يربطه شيء بالسياسة هو بحد ذاته موقف سياسي".
يتساءل جورج أوريل " لماذا أكتب؟" وبعبارة أعم لماذا نكتب نحن جميعا؟.
وفي محاولته للإجابة عن ذلك السؤال يضع أورويل أمامنا الدوافع المتشابكة الذاتية والموضوعية التي تختفي وراء الرغبة في الكتابة، فيقول إن جذور تلك الرغبة تكمن في حب الذات وأن المرء يريد أن يثير إعجاب الآخرين به وأن يبدو ذكيا. وتكمن في الشعور بالجمال والبهجة الناجمين من أثر صوت تلو آخر في إيقاع اللغة، أو في غيرها، ثم في الشوق الملازم للإنسان لاكتشاف الحقيقة والدفاع عنها. وأخيرا تكمن الرغبة في الكتابة في ذلك الحافز السياسي لدفع العالم في اتجاه معين يعتقد صاحبه أنه الاتجاه الصحيح. أما عن دور الأدب فإن أوريل يعتقد أنه دوره هو أن يقودنا إلي عالم جديد " ليس عبر كشفه ما هو غريب، بل عبر كشفه لما هو اعتيادي".
بهذا المنظور للأدب والأديب يتناول أورويل في مقالاته عوالم أدباء عظام مثل شكسبير، وتولستوي، ومارك توين، وهـ . ج. ويلز ، وجوناثان سويفت، وغيرهم. ويسأل على سبيل المثال لماذا كان العظيم ليف تولستوي مؤلف الحرب والسلام يعتبر شكسبير كاتبا " متوسط القيمة"؟! ويقول عنه" لطالما أثار شكسبير في نفسي نفورا ومللا لا يقاوم"! بل ويصرح بقوله" إن شكسبير قد يكون أي شيء تريد لكنه ليس فنانا"! ويحلل بشكل باهر الجوانب المختلطة الرجعية والتقدمية في " رحلات جليفر" وامتزاج تلك الجوانب بحيث تضع أمامنا صورة عصر كامل. يتطرق أورويل أيضا إلي قضايا جمالية مركبة وبالغة الأهمية بعمق وثراء عظيمين، من ذلك تساؤله : لماذا يحدث أحيانا أن نرفض الآراء السياسية والأخلاقية لكاتب ما ومع ذلك نستمتع بعمله ونجله ونقدره ؟! وبعبارة أخرى يضع أورويل أمامنا تلك المسافة التي تفصل أحيانا بين العمل الأدبي كعمل موضوعي قائم بذاته وبين رؤية الكاتب السياسية. المسافة التي تتسع أو تضيق بين قوانين العمل الفني المحكمة والآراء التي تكمن خلفها.
وحين تقرأ " لماذا أكتب " تجد نفسك إزاء عمل نادر كتبه روائي عظيم عن روائيين عظام واشتبك خلاله بجملة من القضايا العظيمة المتعلقة بنظرية الأدب ومفهومه وموقف الأديب ودوافعه. وبالمقالات المختارة في هذا الكتاب يتأكد لنا مجددا أن المقال - الذي نتعامل معه عادة بخفة - يندرج في باب الأدب الكبير كما أشار جابريل جارسيا ماركيز ذات مرة. وبعض مقالات أورويل في ذلك الكتاب تثبت صحة قول الناقد " برنارد كيريك" إن : " الفارق بين القصة القصيرة والمقالة ليس مطلقا "! ويكفي لإدراك تلك الحقيقة أن تقرأ مقالاته الثلاثة الرائعة " واقعة شنق"، و" صيد فيل"، و"هكذا كانت المسرات"، وفيها ستكتشف أن بوسع المقال أن يغدو بقوة وثراء أي عمل أدبي.
أخيرا هل تجدر الإشارة إلي المفاجأة التي انطوى عليها الكتاب حين قدم إلينا كاتبا كان يبدو لنا متشائما جهما في " العالم 1984 " فإذا به كاتب ساخر من الطراز الأول ؟ في النهاية فإن التحية واجبة لمترجم قدير هو الأستاذ على مدن الذي قدم لنا الكتاب بلغة دقيقة متماسكة وحارة، والأهم من ذلك أن اختياره وقع على ذلك الكتاب، لأن الترجمة تبدأ من " اختيار " مانترجمه. فقط حينئذ يغدو المترجم " مؤلفا" يتوقف عند الكتب التي كان يود لو أنه كان كاتبها!