إنقطعت عن الكتابة أكثر من سبعة أشهر أحتجاجا على ما يحدث في بلادنا العربية الجميلة من قتل بل ومذابح يومية، وهذا القتل الممنهج والمذابح لا تحدث بسبب لاقدر الله بسبب إختلافنا على حدود الأراضي أو على إقتسام المياه أو بسبب الفروق الرهيبة بين الفقراء والأغنياء ولكنها تحدث بسبب أن الناس في بلادي يفتقدون إلى ألف باء التعايش ولا يعرفون كيف يتعايشون مع بعضهم البعض، ولا  يعرفون كيف يضعون خلافاتهم الدينية أو العرقية أو العقائدية
جانبا ويحاولون إنقاذ السفينة الغارقة ولكن بدلا من ذلك يحدثون مزيدا من الثقوب في سفينة تغرق.

وبينما لا يوجد لدينا ما نقدمه للعالم سوى القتل ومزيد من الضحايا توجد هناك بلدان كثيرة تتقدم وتقدم أشياء رائعة للبشرية كل يوم في كل المجالات، العالم المتقدم وحتى نصف المتقدم في حالة إنفجار علمي لتحسين حياة وصحة الإنسان، بينما نحن في حالة إنفجار بمعنى الكلمة فكل يوم هناك إنفجار وتفجير، إذا لم يعجبك لون منزل جارك فما عليك إلا أن تقوم بتفجيره.

وكل يوم أقرأ عما يحدث في بلدان كثيرة من أنباء أختراعات جديدة تخترق الفضاء وتخترق الأمراض وتخترق حاجز الصوت وتكتشف الكون وتعالج الفقراء، أم في بلادنا الجميلة فقد عجزنا أن نقوم بتصنيع بسكليتة! لذلك كانت أنباء مفرحة جدا أن الهيئة الهندسية بالجيش المصري قد قامت بإختراع يقوم بإكتشاف فيروس الكبد الوبائي سي والفيروس المسبب لمرض الإيدز، ليس هذا فحسب ولكنها قامت بإكتشاف جهاز آخر يعالج تلك الفيروسات بدون أي مضاعفات وبنسبة نجاح 100%،  هل يعقل هذا؟ مصر وفي ظل المحنة التي تعيشها تقدم للعالم شئ مبهر سيستفيد منه الملايين من المرضى وستصبح القاهرة منارة مرة أخرى للعالم فسوف يحضر المرضى للقاهرة بالملايين لكي يعالجون مثلما يذهبون إلى مستشفى كليفلاند في أمريكا لعمل عمليات القلب، وما جعلني أصدق هذا الأختراع هو أن الإعلان عن الأختراع تم في حضور الرئيس المصري المؤقت عدلي منصور وهو رجل محترم كان رئيس المحكمة الدستورية العليا وقبل أن يقود البلاد في تلك الظروف الصعبة، ليس هذا فحسب ولكن حضر أيضا المشير عبد الفتاح السيسي نجم الجماهير والرجل الذي أنقذ مصر من حكم الأخوان والرجل الذي يؤمن الجميع بأنه الرئيس القادم، ومعظم كبار البلد حضروا هذا الإجتماع، لذلك آمنت وصدقت أن الأختراع حقيقي وتم تجربته مئات المرات بنجاح قبل أن نخرج على العالم بهذا الخبر المفرح والجميل، وهاهي مصر تعود مرة أخرى بعد أن قدمت للعالم حضارة مبهرة حضارة السبعة آلاف سنة، هاهي تنهض من جديد بل ظن الأعداء بل والأصدقاء أنها لن تنهض مرة أخرى، ولكنها تنهض ليس أي نهوض ولكنه نهوضا مبهرا حيث تقدم علاجا أكيدا لأمراض اعييت مراكز البحث في العالم كله وراح ضحيتها ملايين من البشر.

وبالفعل صدقت كل هذا وبدات في مكالمة أصدقائي الأمريكان والأوروبيين أخبرهم عن الأخبار السعيدة وأننا أخيرا أصبح  في إستطاعتنا تصدير شئ مفيد للبشرية بعد أن أتعبنا البشرية بتصدير الإرهاب، والجميل في الإختراع أن جهاز العلاج يحول تلك الفيروسات اللعينة إلى أحماض أمينية وهي مواد بروتينية مغذية للإنسان.

وكل هذا الأمل والتفاؤل قد تبخر بمجرد أن شاهدت اللواء دكتور إبراهيم عبد العاطي، وما أن تكلم عن صباع الكفتة حتى أصابني ما يشبه السكتة القلبية، فقد قال بالحرف: "أنا بآخد المرض من المريض وأعطيه له بروتين يعني بأعطي له صباع كفتة" !! ولذلك قررت البحث في الموضوع، فاتضح لي عدد من الحقائق:
أولا: أن اللواء إبراهيم عبد العاطي ليس لواء عسكري ولكن الجيش يبدو قام بإعطائه تلك الرتبة لكي يتمكن من العمل مع الهيئة الهندسية، ولكي يبدو أن المخترع رجلا عسكريا وليس مدنيا (الشر بره وبعيد).
ثانيا: أن اللواء ليس طبيبا ولكنه خريج كلية العلوم وحاصل على الدكتوراه
ثالثا: أنه سبق له الظهور في "قناة الناس" السلفية الدينية يبيع للناس وهم العلاج بالأعشاب
رابعا: أنه ذكرني بالحاج محمود صاحب شربة الدود
....
والحاج محمود هذا له قصة طريفة معي، كان عمري تقريبا عشر سنوات، وكان الحاج محمود هذا يجئ في ميدان الملك الصالح بحي مصر القديمة بالقاهرة حيث نشأت وترعرت، وكان رجلا نحيفا طويلا يشبه والله إلي حد كبير اللواء إبراهيم عبد العاطي، ولكنه كان يرتدي طربوشا أحمر ويضع منديلا أبيض تحت الطربوش حتى لا يفسد عرق الصيف الطربوش، ويرتدي جاكيت أسود مزيت، وكان يقف على كرسي خيرزان مخروم من المنتصف، لست أدري لماذا؟ ربما لإضافة مزيد من الإثارة إلى ما سوف يقوله للناس، وبمجرد أن يقف على حرف كرسي الخيرزان هذا إلا ويتجمع حوله الناس وأنا من بينهم وكنت أنظر أليه وهو في العالي بإعجاب حتى تنقصم رقبتي !! وكنت أرى معه كوب ماء مملوء إلى نصفه ويضع في هذا الكوب قطعة معدنية فضية من فئة العشرة قروش، يبدأ كلامه للناس بعد أن يكون قد تجمع حوله العشرات:
"عيسي نبي .. موسي نبي.. محمد نبي... وكل من له نبي يصلي" (شايفين الوحدة الوطنية)
ويبدا الناس على الفور في الصلاة على النبي (كل حسب النبي بتاعه)
ولكن الحاج محمود لا يعجبه قوة الصلاة ع النبي فيعيد القول:
"وكمان زيدوا النبي صلاة"
فيطيع الناس ويصلون على النبي ولكن هذه المرة بنبرة أعلى:
"اللهم صلي عليك يا نبي"
وبعد أن أقتنع بقوة الصلاة ع النبي يبدأ الحاج محمود:
"طبعا كلنا عارفين أن كل شئ يتم بأمر الله وبمشيئته"
فيردد المشاهدون:
"ونعم بالله"
كل هذا يحدث وأنا رقبتي (إتلوحت) من متابعة كوب الماء وداخلة العشرة قروش الفضة والتي كانت تساوي مصروفي في أسبوع، وكنت أستطيع بها الذهاب إلي سينما إيزيس بالسيدة زينب ثلاث مرات لمشاهدة أفلام الكاوبوي!!
وإذا بالحاج محمود يلقي خطبة طويلة لا أذكر منها الكثير ولكنه في نهايتها يقول:
"أنا بعون الله حا آخد البريزة الفضة (عشرة صاغ) وأحولها إلي جنيه دهب بعد قراءة بعض الآيات في سري"
ويشتد الإنتباه بين الناس، ويبدو أني كنت الوحيد الذي كنت أفكر وأقول لنفسي: إذا كان الحاج محمود بإستطاعته أن يحول بريزة فضة إلي جنيه دهب، فماذا يتعبه في الحر والطربوش ومن تحته المنديل يتصبب عرقا، لما لا يجلس في بيته ويحول البريزة إلى جنيه ذهب ثم يبيع الجنيه الذهب ويشتري بثمنه عشرات البرايز الفضة و في غضون أيام بإمكانه أن يصبح أغنى واحد في العالم.
وبينما أنا مستغرق في أفكاري تلك فإذا بالحاج محمود يخرج من جراب قماش يحمله على كتفه زجاجة صغيرة أصغر من علبة الكبريت، ويقول:
"وقبل ما أحول البريزة الفضة لجنيه دهب ... عاوز أكسب فيكم معروف وثواب عشان تفتكروا عمكم محمود بالدعاء، شايفين الإزازة دي بعون الله حتنزل منكم كل الدود، دود المعدة، ودي كنت بأبيعها في معرض دمشق الدولي بإتنين ليرة ولكن كرامة لسيدي أبو السعود الجارحي، حا أبيعها بخمسة صاغ بس"
ويبدأ الحاج محمود بإخراج المزيد من زجاجاته للناس للفرجة عليها، ويبدأ الناس بإخراج القروش ويبدأون في الشراء ويستمر الحاج محمود في إخراج زجاجات الدود في جرابه وإدخال مكانها القروش، وينسى الناس مسألة تحويل البريزة الفضة إلى جنيه دهب، وأذهب عائدا إلى منزلي وأنا أفكر في الحاج محمود وينتابني شعور الخيبة منه حيث أن كان كل همي أن أعرف منه تلك الآيات والتعويذات التي تحول البريزة الفضة إلى جنيه دهب؟؟ حيث أني لم أكن أعاني من أي دود في معدتي ولكني كنت أعاني من نقص النقود التي أصرفها دائما للذهاب إلى السينما!
...
  والمصريون يمكنهم أن يأخذوا كل شئ "قفش" وبفهلوة إلا العلم والإختراعات العلمية والتي لابد أن تخضع للتجربة، ومثل الإعلان عن هذا العلاج والذي ممكن أن يحدث ضجة علمية في كافة أنحاء العالم لو تم الإعلان عنه في المؤتمرات العلمية العالمية وليس المؤتمرات الصحفية، وبإفتراض صحة هذا الإختراع، فكان على الجيش أن يختار شخصا آخرا من فريق البحث غير اللواء (عب العاطي) والذي ذكرني بالحاج محمود بائع شربة الدود.
وطبعا يقول الخبثاء وما أكثرهم في مصر أن الإعلان عن هذا الإختراع وفي هذا التوقيت ماهو الا محاولة لزيادة شعبية الجيش بين الناس، على أساس أن الجيش بتاع كله: خلصنا من الأخوان ويفض المظاهرات ويضرب الإرهابيين في سيناء ويبني الطرق ويوزع أنابيب البوتاجاز ويقوم بتشغيل أتوبيسات النقل العام، وسوف يخلصنا من فيروس الكبد الوبائي سي، ويقوم الحاج عب عاطي بتوزيع الكفتة على المرضى، وبالمرة يقوم بتوزيع شربة الدود للحاج
محمود!

إيلاف