بقلم : سمير حبشى
يا إخوتى : ليس هناك أمتع من مواجهة الإنسان لأخيه الإنسان ، بما يحمل له فى قلبه ، حتى لو كانت البغضاء وعدم المحبة ، هنا يخرج بعدها الإنسان وقد حصل على إجابات شافية لأسئلة هى دائما محيرة ، وخاصة لمفهوم الإنسان القبطى الذى تحيطه مستنقعات الغش فى وسط السيرك الكبير الذى يسمى جمهورية مصر العربية ، حيث لا يوجد أى توازن فى إسلوب الحياة اليومية ، فكل فرد يمارس لعبته التى أتقنها فى عدم الإضاءة الواضحة ، فتختفى أصول اللعبة ، وتظهر ظلال تغطى الحياة ببرقع النفاق ، وليس هناك أسوأ وأكثر إسفافا من نفاق الإنسان لأخيه الإنسان ، هذا النفاق الذى لا يضيف شيئا غير مصيبة فوق كم المصائب المتتالية .
هذه الأيام ، وبعد الثورات المتتالية للشعب فى مصر ، أصبح يتردد على مسامع الأقباط شعارات وهتافات ساخنة ، تعلن عن الحب المتبادل بين مسلمى مصر وأقباطها ، مثل " مسلم ومسيحى إيد واحدة ، " عاش الهلال مع الصليب " ، وكثير من هذه الشعارات التى تُعلن عن الحب المتبادل ، ولكن الحب ليـــس لمســة يد رقيقة .. أو هتافات بمعانى عمــيقة .. الحــب ليــس تماسك بين الأيادى ، ولــيس كلـمــات تخرج من الحناجر ، الحــب شعور بالمسئولية تجاه الآخر واحسـاس نابع من القلب يخــاف على الآخر .. الحـــب احســاس وشعور يجعل الإنسان يفضل الآخر على شخصه . والحب بكل معانيه يختفى بجانب الحب الكبير " حب الوطن " الذى يزرع الإنتماء الحقيقى فى قلب الإنسان ، فيجعله يزود بروحه دفاعا عنه ..
ومن يحب وطنه ويحمله فى قلبه ، ويعيش وطنه فيه قبل أن يعيش هو فى وطنه ، نراه لابد أن يحب كل من على أرض هذا الوطن ، مهما كان هناك إختلاف فى اللون أو الجنس أو العقيدة ، وغير هذا يا إخوتى يكون الإنسان يمثل دور تقليدى للنفاق على مسرح العبث .. وهذا للأسف ما نراه هذه الأيام فى مصر .
ترددت كثيرا فى أن أكتب فى هذا المجال ، حتى لا أتصادم مع تصريحات قياداتنا القبطية ، والتى ترى أن فى الصمت رسالة لها صوت أعلى من صوت الكلمات ، بل وترى أيضا أن التضحيات المتكررة والدائمة هى نوع نبيل من أنواع الوطنية ، وأنا أوافقهم ، ولكن هذا يتم فى وطن يحرك شعبه الشعور والضمير والإنتماء للحب الكبير " حب الوطن " .. وللأسف فالأحداث المتوالية من المصائب التى يحياها أقباط مصر ، تُثبت أن هذه المفردات الثلاثة " الشعور ، والضمير ، والحب الكبير ، " مفقودة تماما فى الشارع المصرى ، من القادة والشعب .. وأصبحت تعلو فى قلب القبطى آهات العتاب ، بل أصبح يشعر كل يوم أنه يحيا بين الذئاب .. ويُعرّف الضمير بأنه قدرة الإنسان على التمييز بين الصواب والخطأ ، والحق والباطل ، ويقود إلى الشعور بالندم ، عندما تتعارض الأشياء التي يفعلها الفرد مع قيمه الأخلاقية ، التي تربى عليها وتعلمها من خلاصة القيم الإنسانية ، وإلى الشعور بالنزاهة فى تساوى الحب للجميع ..
ولكن على الصعيد المصرى ، نرى أن النزاهة فى تساوى الحب بين الجميع مفقودة تماما ، وفقط مغلفة بشعارات لا تُفعَل ، ولا تجد مكانا لها بين تصرفات الشعب المصرى وحكومته ، والأمثلة نعيشها كل يوم وكل لحظة .
إستكثر الإرهاب الأسود على الصغيرة "مريم" حياتها، واغتالتها يده الآثمة ، لتودع مصر طفلتها وزهرتها ، فى مشهد أدمى قلوب الجميع ، عقب الحادث الإرهابى الذى تعرضت له كنيسة العذراء بالوراق ، وخلف وراءه أربعة من الضحايا وسبعة عشر مصابا .. ماذا فعلت الجماهير التى تصرخ " مسيحى ومسلم إيد واحدة " وماذا فعلت القيادات التى تتغنى بقيام الثورة ؟ . هل خرج نعش مريم فى جنازة جماهيرية وأمامه القيادات ، مصحوبا بهتافات مثل إلى " جنة الخلد يا أيتها الشهيدة مريم " ؟؟ !! ، للأسف لم يحرك أحد ساكنا .. ولم تجد المأساة مكانا بين سطور وصفحات الإعلام ، بما يظهر فعلا هذا الحب الكبير، ولم تحاول القيادات البحث الجدى لمعرفة القاتل ، لأن الحقيقة المرة للأسف تقول عكس الصرخات والشعارات .
مروة الشربينى السيدة التى تطاولت بالسب على مواطن ألمانى فى أحد الحدائق حتى إستفزته وأشعلت غضبه فقتلها .. ماتت ليس بيد الإرهاب ، وليس كشهيدة ، ولكن قامت الدنيا ولم تقعد ، سافر لها أكثر من إثنى عشر محاميا ليقفوا بجانب قضيتها ويطالبون بحقها ، وعند وصول جثمانها ، خرجت الجماهير والحشود ورجال النقابات والقيادات ممثلة أتم تمثيل ، وخرجت الجنازة فى شكل مهيب ، وقررت الحكومة المصرية تسمية شارع على إسمها وحتى هى أسموها شهيدة الحجاب .. هذا مع الفارق الكبير بين الملاك الشهيد مريم وبين قتيلة بسبب سلاطة اللسان .
المأساة الإنسانية الأكبر ، والتى تجسدت في قتل والتمثيل بجثة حلاق قبطي يدعي اسكندر طوس فى قرية دلجا ، بدعوي أنه قاوم المسلمين عندما هاجموا بيته ، وقد قتل طوس بسلاح أبيض ، بعد أن تغلب عليه مهاجموه وذبح كالشاه ، ثم اتفقوا مع صاحب جرار زراعى وأوثقوا المذبوح من قدميه وسحلوه ، وهكذا رأى أهل القرية جميعا إسكندر طوس الحلاق للمرة الأخيرة ، مذبوحا مسحولا خلف جرار، بينما رأسه المقطوع يتأرجح والدم يسيل منه .. سحل أمام الجميع فى شوارع القرية .. أكرر أمام الجميع .. فهل تصدى لهذه الجريمة أحد مع العلم بأن سكان القرية مائة وعشرون ألفا يبلغ عدد الاقباط عشرون ألفا ، والباقون مسلمون .. للأسف كان فى قلب الكل فرحة مغطاة بالنفاق ، ولسان حال الجميع يقول : ليكن درسا شديدا لهذا النصرانى يجعله عبرة بعد ذلك لأى كافر يتحدى الإسلام والمسلمين !! .. وحتى بعد دفنه عادوا بعد قليل ، عندما اكتشفوا أنهم نسيوا تصوير إسكندر وهو مذبوح ، فقاموا بإخراج الجثه مرة أخرى ، وصوروها بتليفوناتهم المحمولة حتى اكتفوا ، وأخذ أحدهم يتسلى بإطلاق الرصاص على جثته .
جمال الدين بدير ، سائق التاكسى فى المنصورة ، قتله الإخوان لأنه يعلق صورة السيسى ، والجميع يعرف كيف كانت جنازته الشعبية ، التى سدت الطرق ، والقيادات التى تسير فى مقدمتها .. هذا مع الفارق بين إنسان يحاول الزود عن بيته وعرضه ، وإنسان قتل لأسباب غاب عن كل مصرى أن ما يميز الإنسان عن غيره من الكائنات الحية هو امتلاكه لضمير يفترض أن يكون دليله ومرشده ورقيبه الداخلي على الصعيد الأخلاقي والإنساني .. فعندما تستقبل مصر جثامين سبع ضحايا من أبناء مصر قادمة من ليبيا .. هل إنتظرتهم الجماهير بالهتافات كما استقبلوا جسد مروه الشربينى ؟؟ ، بالطبع لا وألف لا ، بل خرج المسئولون بقصص كاذبة متهمين الشهداء الذين قتلوا فقط لإيمانهم بالمسيح ، بأنهم كانوا فى ليبيا بإقامة غير قانونية.
يا إخوتى : إن حجم الألم قد فاض عن كل أرصدة الصبر ، ولقد أصبح التمييز العنصري بين أبناء الوطن الواحد على أساس الدين واضحا وجليا .. لقد أعطى الأقباط لمصر ما لم يستطع أحد آخر إعطاءه من تضحيات .. قدم الاقباط نفوسهم رخيصة فداءً للوطن ، و ماذا قدم الوطن لهم؟ قدموا كنائسهم ومتاجرهم وبيوتهم من اجل سلامة الوطن ، لكن تركهم الوطن فريسة للجماعات الاسلامية !! حتى المواطنة لم ينعموا بها حتى اليوم ، فهل سيتغير الشعور العام ويستيقظ الضمير ونجد يوما المسلمون يشيعون جنازة مسيحى وهم يهتفون إلى جنة الخلد أيها الشهيد جرجس أو حنا ؟؟؟ !! .. هنا فقط أستطيع أن أقول : لقد وُجد من استطاع أن يكسر حصار الظلمة ويحولها إلى نور .. هنا فقط أجد الأمل فى أن تجف دموع الأقباط ، ويختفى مسلسل النعوش بالجملة .. هنا فقط سأعرف أنه ولد الشعور واستيقظ الضمير وعرف المصريون الحب الكبير .