بقلم يوسف سيدهم
وسط ظروف غريبة وارتباك غير مفهوم صدر تقرير المجلس القومي لحقوق الإنسان بناء علي قرار رئيس الجمهورية بتشكيل لجنة رفيعة المستوي لتقصي الحقائق حول أحداث العنف التي واكبت اعتصامي رابعة والنهضة وماتبع ذلك من أحداث عنف مرتبطة بفض الاعتصامين, وكذلك العنف والإرهاب اللذان استفحلا عقب نجاح الفض في ربوع مصر.
الملابسات المرتبكة التي صاحبت المؤتمر الصحفي العالمي الذي نظمه ودعا إليه المجلس القومي لحقوق الإنسان الأسبوع قبل الماضي هي وحدها تستدعي تقرير تقصي حقائق(!!) وتترك علامات استفهام حول مساحات الاتفاق والاختلاف بين أعضاء المجلس,فالتسريبات التي خرجت من المجلس تتحدث عن المشاحنات والصياح والمبارزات الكلامية المتبادلة بين أعضائه,الأمر الذي أدي إلي تأخير بدء المؤتمر الصحفي عدة ساعات ومانتج عن ذلك من احتجاج الإعلاميين,ولعل الأيام القادمة تكشف عن تفسيرات شافية لكل ذلك لأن تقريرا بمثل هذه الأهمية يرصد ويوثق تفاصيل ماحدث في فترة دقيقة جدا من تاريخ ثورة30يونية2013 لايجب أن يحيطه الغموض أو تنشأ شكوك وهواجس حول مايتضمنه من وقائع وحقائق.
يوثق التقرير أولا الانتهاكات التي حدثت أثناء اعتصام رابعة العدوية والنهضة وهي ليست جديدة أو غير معروفة لدي الكافة ولكن تكمن أهمية توثيقها من جانب المجلس القومي لحقوق الإنسان أن التقرير الصادر عنه يمهد الطريق لتقديم مرتكبيها للعدالة...حيث يتعرض لشهادات الناجين من التعذيب داخل الاعتصام عن حالات القتل التي ارتكبت قبل الفض والمسئولة عنها المجموعات التي كانت تتولي تأمينه,حيث كان يتم اقتياد الضحايا الذين يتم الشك في علاقتهم بأجهزة الأمن إلي أماكن محددة لاستجوابهم وذلك كان يشمل ضربهم وتعذيبهم بوحشية أفضت في بعض الأحيان إلي موتهم من جراء ذلك.
كما يذكر التقرير في ذات السياق-عما حدث داخل الاعتصام وقبل فضه-حالات الاحتجاز القسري للمواطنين ومنع بعضهم من المغادرة من قبل إدارة الاعتصام لاستخدامهم كدروع بشرية,علاوة علي استغلال الأطفال والزج بهم في الصراع السياسي بدء من استقدامهم من دور رعاية الأطفال وحشدهم في مظاهرات ومسيرات رافعين لافتات مكتوبا عليهاأطفال ضد الانقلاب بجانب مسيرات أخري تم إلباس الأطفال فيها أكفانا بيضاء مع رفعهم لافتات مكتوبا عليهاشهيد تحت الطلب في انتهاك صارخ لسائر الاتفاقيات الدولية لحماية حقوق الطفل.
ثم يعرج التقرير إلي ظاهرة تسريب وتهريب السلاح داخل الاعتصام وهو الأمر الذي يقطع بعدم سلميته ويؤكد تهمة التحريض علي العنف والإرهاب الموجهة لإدارة الاعتصام وبعض العناصر المدنية المتواجدة داخله بالإضافة إلي تشكيله لتهديد خطير للمعتصمين السلميين الذين لاعلم لهم بوجود الأسلحة ولانية لديهم للجوء للعنف.
ينتقل التقرير بعد ذلك إلي رصد وتوثيق الانتهاكات التي حدثت إبان فض الاعتصام سواء من جانب المعتصمين المسلحين أو من جانب القوات المسئولة عن فضه,وما يدعو للدهشة هنا أن التقرير يدين قوات الأمن بعدم إمهال المعتصمين السلميين سوي بضع دقائق لمغادرة موقع الاعتصام قبل أن تباغتهم بالهجوم وإطلاق النار,فكل منا يذكر جيدا ما عايشه علي أرض الواقع وما تابعه من خلال التغطيات الحية للإعلام والفضائيات في تلك الأيام حيث تم قبل عدة أيام من تاريخ فض الاعتصام توجيه نداءات واضحة ومتكررة من المسئولين عن الأمن إلي كل من يريد المغادرة بسلام بأن هناك ملاذا آمنا وممرات محددة تحرسها قوات الأمن وتضمن من خلالها سلامة المغادرين وذلك من أجل حصر الباقين الذين يصرون علي البقاء في أقل عدد ممكن حقنا للدماء...كان كل ذلك معروفا ويجري تحت سمع وبصر الإعلام ولم تلجأ قوات الأمن إلي مباغتة المعتصمين الذين قرروا المغادرة أو تعريض حياتهم للخطر....وإذ أسجل ذلك أتصور أن هذه المفارقة بين ماحدث وقتها وبين مايدرجه التقرير بالقطع تقف وراء مايتسرب حول الانقسام والانشقاق بين أعضاء المجلس القومي لحقوق الإنسان وقت صدور التقرير.
لكن التقرير يعود ويسجل الانتهاكات التي ارتكتبتها العناصر المسلحة داخل الاعتصام أثناء فضه وشملت استخدام المدنيين كدروع بشرية تحول بين قوات الأمن وبينهم وتوقعها في مرمي النيران المتبادلة والتي يوثق التقرير أنها انطلقت أولا من المسلحين داخل الاعتصام نحو قوات الأمن المكلفة بفضه فكانت الضحية الأولي التي سقطت صريعة ذلك من قوات الأمن...وبالرغم من اعتراف التقرير بذلك-وهو ما يتوافق تماما مع ما عايشناه جميعا-يتجاهل التقرير اعتلاء المسلحين من المعتصمين أسطح وشرفات العمارات والمنشآت المطلة علي موقع الاعتصام-ومنهم القناصة المدربون-وإطلاقهم النار علي قوات الأمن,يقفز التقرير فوق ذلك الواقع ليقول بغرابة إن قوات الأمن في ردها علي أولئك المسلحين القناصة تجاوزت التناسب المنطقي وبالغت في كثافة نيرانها(!!!)...والحقيقة أني أختلف مع التقرير في هذا الأمر ولست أدري ماهو التناسب المنطقي الواجب أن تلتزم به قوات مستهدفة بالقتل من قناصة مختبئين في بنايات ومحتمين بأسطح؟...ومتي يكون إسكات نيرانها وردعها مشروعا إن لم يكن في تلك الساعات العصيبة؟!!
بنفس السيناريو وذات درجة الغرابة يتجاهل التقرير مسرح الأحداث أثناء الفض وكيف استحل المعتصمون المسلحون تحويله إلي ساحة قنص وقتل وترويع,فلا يفزع إلا من عدم تمكن سيارات الإسعاف من دخول ميدان المعركة لإسعاف ونقل المصابين(!!!)...يسجل التقرير حشد السلطات لنحو300 سيارة إسعاف أساسية و100سيارة إسعاف احتياطية تحسبا للاحتياج الذي قد ينجم عن الاشتباكات,لكنه ينحي باللائمة في فشل هذا الأسطول في أداء واجبه علي كثافة تبادل النيران -وسقوط أحد رجال الإسعاف صريعا من جرائه-التي ينسبها لقوات الأمن وحدها!!!!.
إن تقرير المجلس القومي لحقوق الإنسان يثير من علامات الاستفهام ويضع من علامات التعجب مايفوق الإجابات الشافية حول حقيقة ماحدث في اعتصامي رابعة والنهضة وماصاحب فضهما...وأجدني أمام أكثر من موضع في التقرير أقف متسائلا:هل يناصر التقرير حقوق الإنسان بشكل مطلق أم أنه يقلق فقط علي حقوق الإرهابيين؟!!