د. أحمد الخميسي
لم يتعرض طه حسين للسجن بعد نشر كتابه في الشعر الجاهلي" عام 1926، وأغلقت النيابة التحقيق معه وبرأته. وحين كتب إسماعيل أدهم مقاله" لماذا أنا ملحد؟ " عام 1936 كان إلحاده واضحا بنص كلماته" خرجت عن الأديان وتخليت عن كل المعتقدات وآمنت بالعلم وحده". مع ذلك لم يطالب أحد بتطبيق حد الردة على الكاتب وهو مسلم، ولم يسجن، ولم يتم نفيه إلي الخارج، ولا جرت حتى مصادرة الكتاب! واكتفى أساتذة كبار بتفنيد رأيه مثل د. أحمد زكي أبوشادي في مقاله " لماذا أنا مؤمن؟". إلا أن ذلك الإيمان برد الكلمة بالكلمة والفكرة بالفكرة سرعان ما انكسر حتى صرنا منذ السبعينات نطارد الكتاب بالقتل كما حدث مع فرج فودة بسبب كتابه" الحقيقة الغائبة"، أو بالطعن كما تم مع نجيب محفوظ، أوبالسجن مثلما جرى مع علاء حامد بسبب روايته" مسافة في عقل رجل" أو كحد أدنى بالتكفير في حالة نصر حامد أبوزيد بسبب "نقد الخطاب الديني". ولمعت في كل مكان تهمة " ازدراء الأديان" التي وجهت مؤخرا إلي كرم صابر بسبب مجموعته القصصية " أين الله ؟" فصدر عليه في 11 مارس الحالي حكم بالسجن خمس سنوات!
مجموعة " أين الله" لكرم صابر صدرت في 2010، وفي أبريل 2011 رفع المحامي سيد طنطاوي وآخرون بلاغا لنيابة بني سويف طالبوا فيه بمصادرتها واتهموا مؤلفها" بالتهكم على الشريعة الإسلامية وفرائضها .. والسخرية من أحكام الإسلام". ولاشك أن الباعث على التفسير المتعنت للمجموعة متوفر في قصصها الإحدى عشرة التي اقتصرت – لا أدري لماذا - على تناول الموضوع الديني بتجلياته المختلفة. إلا أن قراءة منصفة ستبين أن الباب كان مفتوحا دوما لتفسير آخر لكلمات الكاتب بدءا من عنوان المجموعة " أين الله" الذي يحتمل التفسير كنفي لوجود الذات الإلهية أو على العكس كنداء واسترحام لها لتشمل الجميع بعطفها، أو قوله " أيها الرب أنت الأمل.. عد إلينا". لهذا أشار تقرير لجنة القصة بالمجلس الأعلى للثقافة بشأن الحكم الصادر إلي أن أدلة الثبوت التي استعانت بها المحكمة تكشف عن " غياب الفهم الدقيق لمعنى الأدب وجمالياته". ولست هنا في معرض الدفاع عن المجموعة كعمل فني، فهي ليست قصصا وإنما صور صحفية أدبية. الأهم من ذلك إنني رأيت ومازلت أرى أن الدين قضية بين الخالق عز وجل والمخلوق، أما المؤلفون الذين يتناولون تلك القضية بصفتها قضية مركزية، فإنهم يلتقون عمليا مع المتعصبين الذين يتخذون من الموضوع ذاته محورا للنضال. هنا وهناك يتم طرح هموم مصر على أساس ديني. وبالرغم من ذلك فإنني أستنكر صدور حكم بسجن كاتب، أي كاتب، أيا كان ما كتبه. وقد قدم المحامي حمدي الأسيوطي بهذا المعنى مذكرة دفاع مجيدة أبرز فيها تعارض الحكم مع المادة 67 من الدستور التي تنص على أن " حرية الإبداع مكفولة" والتي تنص أيضا على " عدم حبس مبدع عن كتاب أو فكر أو رأي". أما الشهود فكانوا مساعد شرطة وملازم شرطة ومفتش بالأوقاف! بوسعنا أن نختلف مع الكاتب إلي أقصى درجة وأن نفند ماجاء في عمله حرفا حرفا، أما المصادرة والسجون فقد أثبت تاريخ الفكر أنها بلا جدوى، وأنها لم تمنع أحدا من الإدلاء بما لديه سواء أكان مالديه يستحق أن يقال أو لا يستحق.