سبق لي أن أبلغت القارئ بأن خالي عبده قد توفاه الله بعد أن تجاوز المائة عام. الواقع والحقيقة أن خالي عبده ما زال على قيد الحياة، وأن هذه الكذبة صنعتها الأسرة دفاعا عن سمعتها بعد أن قبض على خالي عبده في لندن، حيث كان يعمل فراشا في سفارتنا هناك، كان متهما بالنصب على عشرين سيدة إنجليزية أقام معهن علاقات حميمية، واستولى على مصوغاتهن بعد أن زعم لهن أنه يعمل ملحقا ثقافيا في السفارة المصرية. كان لا بد أن تعلن الأسرة عن وفاته، وأن تقيم سرادقا لتقبل العزاء فيه.
وعندما قدم للمحاكمة في محكمة أولد بيلي في لندن، اهتمت كل الصحف الإنجليزية بهذه المحاكمة وخصوصا بعد أن رفض توكيل محام يترافع عنه كما رفض أن تعين له المحكمة محاميا طبقا للقانون، وطلب من القاضي أن يترافع عن نفسه، وفي دفاعه اتضح أنه كان يدافع عن تراثنا وتقاليدنا وطريقتنا في الحياة. من الواضح أن القاضي كان معجبا به على المستوى الشخصي، فقد كان يجيب عن أسئلته في صدق وحرارة وبغير أي التواء.
استعرضت الصحافة الإنجليزية جانبا من إجاباته وخصوصا تلك التي قال فيها: أقسم لك يا سيدي القاضي أنني أحببتهن جميعا، حبا حقيقيا، ديمقراطيا بمعنى أنني كنت أعطي لكل واحدة منهن نفس كمية الحب والحنان.. نفس عدد القبلات، نفس اللمسات، طبعا أنا أعمل فراشا في السفارة المصرية وليس ملحقا كما قلت لهن.. التقاليد هنا والقوانين حتمت اتهامي بالكذب.. ولكني لست إنجليزيا يا سيدي.. في بلادي لا يعاقب أحد لأنه كذب ويكذب، هذه هي تركيبتي الاجتماعية والنفسية والأخلاقية، هذا هو ما عشته وما تربيت عليه.
وهنا سأله القاضي بدهشة: هل أنت متأكد أنه لا توجد عقوبة في القانون عندكم لمن يكذبون على الناس؟
فأجاب: على حد علمي لا يا سيدي القاضي، لا أذكر أن شخصا ما عوقب في بلدي لأنه كذب على أحد.. القانون الوحيد هو أن «اللي بيكذب بيروح النار».
فسأله القاضي: نار إيه؟
أجاب: نار جهنم.
فعلق القاضي: آه.. فهمت.. الكذابون عندكم يعاقبون فقط في الآخرة.. يعني هناك متسع من الوقت عندهم ليتوبوا قبل يوم القيامة.
وقال خالي عبده: نعم يا سيدي القاضي.. المهم هو أنه من الظلم البين أن أحاسب على جريمة ليست جريمة في ثقافتي وتقاليدي.
قال القاضي في هدوء يبلغ حد البرود: لا بأس.. ولكن ماذا عن السرقة.. سرقة مصوغات هاته النساء المخدوعات.. هل السرقة في بلادكم لا يعاقب عليها القانون؟
قال خالي عبده: لا طبعا.. السرقة جريمة في كل مكان وزمان.. هل تصدق يا سيدي القاضي أنني سرقت مصوغاتهن؟.. لقد حكيت لهن أن أطفال المدارس في صعيد مصر يصابون بالتسمم نتيجة للأطعمة الفاسدة التي تقدم لهم، ولذلك اتخذن قرارا بأن أبيع مصوغاتهن وأن أشتري لهؤلاء الأطفال ألبانا جيدة من إنجلترا.. للأسف لم يتم المشروع فقد قبض البوليس الإنجليزي عليّ وأنا أبيع هذه المصوغات. وأصدر القاضي حكمه على خالي عبده بالسجن لعشرة أعوام.. وحرصا على سمعة الأسرة أعلنا وفاته.
الشرق الاوسط