فى اعتقادى أن قصور الثقافة هى المكسب الأكبر الذى حققته الثقافة المصرية خلال العقود الستة الماضية، وهى النشاط الذى يحتاج أكثر من غيره لرعاية الدولة، ويبرر وجود وزارة للثقافة.
قبل أن تصبح للثقافة وزارة فى مصر كانت الثقافة بكل فنونها موجودة حاضرة. الشعر والنثر، والكتاب والمجلة، والأغنية والموسيقى والمسرح والسينما، والصورة والتمثال، بعض هذه الفنون كانت ترعاه الدولة كالمسرح الذى اهتم به الخديو إسماعيل، وأنشأ له مبنى فى حديقة الأزبكية عام 1867، وفى عام 1904 أوفدت الحكومة المصرية جورج أبيض إلى باريس ليدرس فن المسرح. وفى عام 1935 أنشأت المسرح القومى أو الفرقة القومية التى استهلت نشاطها بتقديم «أهل الكهف» التى اقتبسها توفيق الحكيم مما ذكر عن أبطالها فى القرآن الكريم.
لكن الفرقة القومية التى أنشأتها الحكومة لتماثل الكوميدى فرانسيز التى أنشأتها فرنسا كانت فرقة واحدة من فرق مصرية أخرى نشأت بمبادرات خاصة، واعتمدت على جمهورها الذى أقبل على مشاهدة ما كانت تقدمه من عروض شعبية لعب فيها نجوم الكوميديا أمثال نجيب الريحانى وعلى الكسار وإسماعيل ياسين الدور الأول، على حين ظل المسرح القومى مسرحاً مثقفاً يقدم النصوص الرفيعة بالأساليب المتبعة فى المسارح الكبرى.
وقبل أن تنشأ الوزارة نشأ معهد التمثيل، وبنيت عدة مسارح فى القاهرة، والإسكندرية، والمنصورة، وطنطا، ونشأت أيضاً فرق خاصة التزمت بما يلتزم به المسرح المثقف كفرقة رمسيس التى أنشأها يوسف وهبى، وفرقة المسرح الحديث التى أنشأها زكى طليمات.
وما يقال عن المسرح يقال عن السينما التى عرفناها فى الوقت الذى عرفها فيه الفرنسيون، أى فى السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر حين تمكن الأخوان لوميير من اختراع فن الصور المتحركة. الفرنسيون شاهدوا العرض السينمائى الأول عام 1895، ونحن شاهدناه فى العام التالى. ثم لم تمض إلا سنوات قليلة بعد ذلك وأصبحنا قادرين على إنتاج الأفلام القصيرة. ومنها إلى الأفلام الروائية التى ظهر أولها عام 1917 وكان فيلماً صامتاً، ثم ظهرت الأفلام الناطقة التى أصبحت بها السينما فناً مصرياً أصيلاً.
وقبل أن تنشأ الوزارة كانت الفنون التشكيلية قد انبعثت فى مصر من جديد وازدهرت منذ أسس الأمير يوسف كمال مدرسة الفنون الجميلة عام 1908، وجعلها ثلاثة أقسام للنحت والتصوير والزخرفة، واستقدم لها ثلاثة من كبار الأساتذة الأجانب. وفى هذه المدرسة تخرج محمود مختار، وراغب عياد، ويوسف كامل.
وقبل أن تنشأ الوزارة بتسعين عاماً بنيت دار الأوبرا المصرية فى الوقت الذى بنيت فيه أوبرا باريس.
قصور الثقافة هى وحدها التى نشأت مع نشأة وزارة الثقافة، وإن كانت لها مقدمات قد نفاجأ حين نعلم أنها تعود إلى السنوات الأولى من القرن العشرين.
فى تلك السنوات أدرك المصريون أنهم لن ينتصروا فى معركتهم مع الاستعمار الأوروبى، ولن يحققوا استقلالهم وحريتهم إلا بالثقافة، لأن الثقافة هى طريقهم إلى القوة التى يملك الأوروبيون أسبابها ولا يملك المصريون منها شيئاً. هكذا تألفت جمعية المساعى المشكورة التى نهضت بالتعليم فى المنوفية. وافتتحت الجامعة الأهلية ـ جامعة القاهرة الآن ـ التى أسهم فى قيامها زعماء الشعب وأمراء البيت المالك وفى مقدمتهم الأميرة فاطمة إسماعيل وأخوها الأمير أحمد فؤاد ـ الملك فيما بعد ـ الذى تولى رئاسة الجامعة.
وفى هذا المناخ أنشأ الحزب الوطنى وكان يرأسه آنذاك محمد فريد «مدارس الشعب» لا لتعطى شهادات، بل لتزود عامة المصريين بالقدر الكافى من الثقافة التى تمكنهم من الإسهام فى النشاط العام وأداء واجباتهم نحو الوطن. ومدارس الشعب هذه هى التى تبلورت فكرتها فيما سمى بعد ذلك «الجامعة الشعبية» التى أصبحت فى أربعينيات القرن الماضى مؤسسة رسمية تابعة لوزارة المعارف، ثم سميت «جامعة الثقافة الحرة»، وألحقت بوزارة الثقافة بعد إنشائها، ثم عدل اسمها فأصبح «الثقافة الجماهيرية»، وأخيراً صدر القرار الجمهورى الذى سماها «الهيئة العامة لقصور الثقافة».
وأنا أستعرض هذا التاريخ لأوضح أن قصور الثقافة حاجة شعبية أو جماهيرية لا يلبيها إلا الدولة ولا تحقق أهدافها إلا فى الديمقراطية.
الجهود الخاصة التى تستطيع أن تنشئ فرقة مسرحية أو شركة إنتاج سينمائية أو دار نشر لا تستطيع أن تزود عامة المصريين فى مدنهم وقراهم بالثقافة التى يحتاجون إليها، ليعيشوا فى هذا العصر أهلاً له لا غرباء فيه، يسلكون سبله، ويستخدمون أدواته، ويتذوقون متعه أفراداً وجماعة، بشراً ومواطنين.
من هنا لا تستطيع الثقافة أن تنتشر إلا بالدولة، ولا تستطيع أن تزدهر إلا بالديمقراطية، وباستطاعتنا أن نجعل الشرطين شرطاً واحداً هو الدولة الديمقراطية، وهذا هو القانون الذى تحققت به وازدهرت الثقافة اليونانية القديمة، وثقافة النهضة الإيطالية، والثقافة الأوروبية فى العصور الحديثة، وتحققت به ثقافتنا فى هذا العصر نحن أيضاً.
ولقد رأينا كيف ازدهرت الثقافة المصرية فى النصف الأول من القرن العشرين الذى نعمنا فيه بحريات ديمقراطية لم تكن دائماً مضمونة، لكنها مع ذلك مكنتنا من إنتاج أفضل ما أنتجناه فى الثقافة خلال القرنين الأخيرين.
ولقد رأينا بعد ذلك كيف تراجعت الثقافة المصرية واهتزت صورتها وضعف تأثيرها على المصريين وفقدت قدرتها على التوجيه والتغيير حتى وصلنا إلى ما نحن فيه، وهذا هو الدرس الذى يجب أن نتعلمه ونستفيد منه.
وإذا كانت الدولة الديمقراطية شرطاً لنهضة الثقافة وانتشارها، فالثقافة شرط تقوم به الديمقراطية وتتحقق. وهذه هى وظيفة قصور الثقافة وهذا هو دورها.
يترتب على هذا أن نعيد النظر فى المكان الذى تحتله هيئة قصور الثقافة فى خريطة الوزارة وفى النشاط الذى تقوم به، هل تحتل المكان الذى تستطيع منه أن تؤدى وظيفتها؟ وهل تملك الأجهزة والأدوات والخبرات الفنية والميزانية الكافية التى تمكنها من ذلك؟ وما طبيعة النشاط الذى تقوم به وتتميز به عن غيرها من هيئات الوزارة؟ هل للمسرح الذى تقدمه قصور الثقافة مواصفات خاصة يتميز بها عن مسارح الدولة الأخرى؟ وهل تؤدى فى النشر دوراً وتلبى حاجات تختلف عن تلك التى تلبيها هيئة الكتاب وغيرها من الهيئات التى تنشر الكتب؟ وهل حددت الوزارة لكل هيئة من هيئاتها العمل الذى تختص به والمجال الذى تتحرك فيه وتتواصل من خلاله مع غيرها من الهيئات الشقيقة وتتكامل معها؟
إذا كان لى أن أضع حدوداً للحيز الذى تحتله قصور الثقافة، فأول ما يخطر لى هو أن تكون هذه القصور حلقة وصل بين ثقافة العواصم وثقافة الأقاليم. بين الثقافة الوطنية والإنسانية عامة والثقافات المحلية، ثقافة الفلاحين، وثقافة السواحل، وثقافة البوادى، أما الحد الثانى، فهو أن تحافظ على العناصر الحية فى التراث وأن تستقبل الفكر النقدى وتفتح له صدرها. وأخيراً أن تمارس قصور الثقافة نشاطها بالتنسيق والتعاون مع المؤسسات التعليمية والإعلامية الموجودة فى الأقاليم: المدارس، والجامعات، والإذاعات المحلية المسموعة والمرئية.
وقد قرأت بعناية ما أرسله لى الشاعر سعد عبدالرحمن، رئيس الهيئة، من بيانات تفصيلية عن قصور الثقافة وعن نشاطها، فوجدت فيها ما يبعث على الرضا والتفاؤل، وإن كانت لى ملحوظات عليها وأسئلة تحتاج للجواب.
البيانات تتحدث عن النشاط الذى تقوم به الهيئة، وهو نشاط حافل متعدد الوجوه والمجالات والمستويات. لكننا نريد أن نتأكد من أن كل القصور والبيوت التابعة للهيئة تسهم فى هذا النشاط بالقدر الكافى لنطمئن على أن الديمقراطية تحققت، وأن الثقافة وزعت بالعدل على العواصم والأقاليم.
ولقد وجدت فى السلاسل التى تصدرها الهيئة زاداً وفيراً اقتنيت منه وانتفعت به، لكنى وجدت فيه ما لا ضرورة له وما يجب أن يترك لهيئات أخرى.
أما فى المسرح فقد تساءلت عن مصير التجارب التى قدمها توفيق الحكيم ويوسف إدريس ومحمود دياب وهناء عبدالفتاح فى الوصول إلى أشكال مسرحية مستلهمة من تراث السامر وشعراء الربابة والمداحين.
نقلا عن المصري اليوم