عبد المنعم سعيد | الأحد ٦ ابريل ٢٠١٤ -
٠٠:
٠٩ ص +02:00 EET
عبد المنعم سعيد
لم أكن أبدا من أنصار وجود فرصة واحدة أخيرة لأى أمر من الأمور التى تخص الإنسان؛ فالفرص دائما موجودة لمن يستحقها من البشر الذين يعملون، ويجدون، ويبذلون الجهد والعرق والدموع، وحتى الدم كما قال حكيم قبلنا. والفرصة التى أتت كانت من وضع نهاية لنظام استمر لمدة ستة عقود كاملة، كانت له قواعده وقوانينه ودساتيره وتقاليده وأعرافه، وما كان رسميا أو غير رسمى، علنيا أو باطنيا. ببساطة كانت هناك حفنة من المعارف المعروفة بين الناس أو الشعب المصرى يتبعونها. تماما كما كانت هناك معارف قبلها استمرت منذ عام ١٩٢٢ حتى ١٩٥٢ عندما قامت المملكة المصرية التى كان لها نظامها هى الأخرى، وهذه بدورها تبعت نظاما آخر استمر منذ ١٨٠٥ مع الوالى محمد على الكبير حتى قيام المملكة. لم يكن أى من النظم الثلاثة يسير فى خط مستقيم. كانت هناك هزائم وانتصارات، وتقدم وتراجع، ولكن الحصيلة بين الولاية والمملكة والجمهورية كانت مصر التى عرفناها حتى يوم ٢٥ يناير ٢٠١١.
منذ هذا التاريخ دخلت مصر فى نظام جديد، وكما هو الحال فى كل النظم الجديدة فإن الولادة عسرة، والتغيرات سريعة، وفى آخر حلقات النظام الجمهورى التى استمرت ثلاثين عاما استمرت واحدة من الوزارات لتسع سنوات كاملة، والأخيرة كانت قد دخلت عامها السادس، وجرى تعديلان دستوريان. ولكن ثورة يناير، كما هو الحال مع كل الثورات، أنبتت داخلها ثورتين أخريين، وبلغ عدد الوزارات فيها حتى الآن تسعا مع تعديلاتها. ولا يحدث ذلك فى بلد من البلدان إلا وترتج الدولة، وتنهدم النظم، وتسقط تقاليد، وتنتهى أعراف، وينقسم الناس بين مؤيد ومعارض، ويسار ويمين، ومستفيد ومن أصابه الضرر؛ وفى العادة فإن الدولة تستغرق وقتا بين الإدانة المستمرة للنظام «البائد» باعتباره سببا لكل الشرور، والتصدى لتحمل المسؤولية وانتهاز الفرصة التى لاحت لإقامة نظام أفضل مما كان.
الفرصة بالضرورة لا تتضمن حكما على ما كان، ولا تقييما لما جرى، فالثورة حتى لو سميت ربيعا، فهى عملية هدم مستمرة، لأن ما كان لم يعد قابلا للاستمرار. لماذا كان ذلك كذلك قضية سوف تشغل المؤرخين والمحللين لعقود، وربما قرون مقبلة، ولكن ما يعنينا الآن أن الحفل قارب على الانتهاء، والمشهد فى نهاية الاحتفال عادة لا يكون سارا. تقول لنا استقصاءات الرأى العام المتاحة إن ٧٣٪ من المصريين لا يشعرون بالأمان (مركز بصيرة)، وبعد أن كان ٨٢٪ من المصريين يشعرون بالأمل بعد ثورة يناير، فإنه لم يمض ثلاث سنوات على الثورة حتى بات ٨١٪ يشعرون أنهم أسوأ حالا مما كانوا عليه قبلها. وحينما طلب من المصريين المقارنة مع أحوالهم قبل خمس سنوات مضت، قال ٨٥٪ منهم فى عام ٢٠١١ إنهم يشعرون بأنهم أحسن حالا، وفى عام ٢٠١٣ هبط هذا الشعور إلى ٤٦٪. الثقة فى المستقبل خلال السنوات الخمس المقبلة كانت ٨٢٪. هؤلاء صاروا ٣٦٪، بينما بات من فقدوا الثقة فى المستقبل ٤١٪، بينما من توقعوا أن تبقى الأحوال على ما هى عليها (وهى ليست على ما يرام) ٢٢٪ (مركز جون زغبى). المصريون باتوا يشعرون بالحيرة، وفقدان الطريق، وطبقا لمركز بصيرة فإن ٥٩٪ من المصريين فى نهاية شهر مارس لم يعودوا يعرفون من سيؤيدون فى انتخابات رئاسة الجمهورية، بعد أن كانوا ٤٥٪ منذ شهر مضى (مركز بصيرة).
كل ذلك ليس جديدا على عصور الثورات والتغييرات الكبرى التى تختل فيها الموازين، وتجرى فيها الصراعات الطاحنة، ويسقط فيها الشهداء والجرحى، ويجرى فيها الخلل فى النظام الأساسى للدولة. المثال الواضح لدينا هو تلك الفجوة السارية بين الدستور (٢٠١٤) والقوانين التى لا تزال سارية فى الدولة. فما هو جارٍ، وتعتمد عليه السلطة القضائية، والإجراءات المتبعة - هو الذى قام على قوانين ولوائح كلها استندت إلى دساتير سابقة، وحتى هذه لم تكن استوعبت بعد التعديلات التى جرت على دستور ١٩٧١ فى عام ٢٠٠٧. فالدولة الاشتراكية ليست مثل دولة الاقتصاد الحر، ودولة حقوق الإنسان ليست مثل دولة أمنية، ودولة ديمقراطية ليست مثل دولة سلطوية مركزية، ودولة حديثة ليست مثل دولة تقوم على هوية منغلقة، وهكذا الحال. المسألة بعد ذلك هى إعادة تركيب الدولة المصرية من جديد لكى تتوافق مع الدستور الذى تم إقراره، أما تجاهله واعتباره مجرد وثيقة أخرى تضاف إلى وثائق سابقة، فإننا نضيع فرصة كبيرة لكى نخرج من الحالة التى وصلنا إليها، والتى كانت بمثابة حالة احتجاج عظمى على أحوالنا، ومطالبة بإعادة تركيبها بطريقة أخرى تدفعنا إلى الأمام. وهذه الطريقة وإعادة التركيب المطلوب هما ما ينبغى أن يكون عليهما الحوار القادم حول انتخاب رئيس الجمهورية.
وبصراحة: فإنه لم يعد مطلوبا من الأستاذ حمدين صباحى أن يعلن انتماءه واهتمامه بالفقراء، لأننى لا أتصور مرشحا آخر يعلن أنه سوف يهملهم، ويهتم بالأغنياء، وكذلك لم يعد مرغوبا من المشير عبدالفتاح السيسى الإعلان عن أن مصر هى نور العين، لأنه لا يتصور من يرى أنها ظلام فى مكان آخر. لقد جرى ذلك خلال الانتخابات الماضية عام ٢٠١٢، وفتحت قناة CBC وقتها لكافة المرشحين ولمدة ست ساعات كاملة، بالإضافة إلى ساعات محطات تليفزيونية أخرى، لكى يتحدثوا عن اهتماماتهم وحبهم لمصر وسرعة الإنجاز (المائة يوم الأولى) التى سوف يغيرون فيها البلاد، ويدفعون بها إلى الصفوف الأولى من الدول المتقدمة. الآن أوان النضج، والسؤال كما قال الأستاذ صلاح منتصر هو «كيف؟» والإجابة عن هذا السؤال مرهقة ليس فقط على المرشح الذى عليه أن يبحث ويقدر، والأهم أن يكون صريحا، وإنما أيضا على المواطن، فعندما تحدث المشير السيسى عن ضرورة «العمل» الشاق، وإصلاح ما انهار من الدولة الحديثة، لم يكن المواطنون سعداء بمثل هذه الصراحة، لأنهم يريدون سماع وعود بالسماء التى تمطر ذهبا، والأنهار التى سوف تجرى حليبا وعسلا. المرشح هكذا فى مأزق، فإما أن يكون صريحا، فتتراجع شعبيته، أو يكون كاذبا كما فعل محمد مرسى، فتقوم عليه الثورة بعد عام من السلطة.
حل هذه المعضلة ربما يكون فى الاستفادة من التجربة العالمية، فلسنا أول من دخل المرحلة الثورية، ولن نكون آخرهم، لقد تغير العالم خلال العقود الأربعة الماضية بأسرع مما كان متوقعا أو معروفا. ولم يكن التغير هو انهيار الاتحاد السوفيتى وما شابهه، وتطلع إليه من الدول، وإنما قيام دول مدنية وديمقراطية وحديثة فى شرق ووسط أوروبا، وأمريكا اللاتينية، وشرق وجنوب شرق آسيا، حتى بعض الدول الأفريقية. ودون الدخول فى كثير من التفاصيل، لأن التجربة أيضا كان فيها كثير من الآلام، فإن خلاصة النصيحة لمرشحينا يمكن اختصارها فى أمرين: شروط الانضمام إلى الاتحاد الأوروبى، وتطبيق الإجراءات الواردة فى تقرير البرنامج الإنمائى للأمم المتحدة عن تشغيل الأعمال Doing Business. النصيحة الأولى شاملة السياسة والاقتصاد والمجتمع وحقوق الإنسان، وهى ذات طبيعة إجرائية محددة فى شكل قوانين وقواعد ولوائح تحدد ما هى الدولة التى لها القدرة على اللحاق بالنادى الأوروبى، أى الدول المتقدمة. أما الثانية، فهى حول الكيفية التى يتم بها إصلاح الدولة فى تعاملها مع الاقتصاد والمجتمع. وفى وقت من الأوقات، حتى مطلع الألفية، كانت مكانة مصر فى هذا التقرير ١٦٥ من ١٦٨ دولة. وقبل الثورة بقليل كان ترتيب مصر قد صار ٩١، لكن الثوار لم يجدوا أن ذلك كافيا، وكانت لهم آراء أخرى فى كيف نسرع التقدم فى مصر، ولكنهم لم يصرحوا بها حتى الآن.
انتهى الحفل أيها السادة، ولم يعد هناك فى الاحتياطى ما يساعد على العيش، والعروسان لم يعرفا شهرا للعسل بعد، والقاعة مقلوبة مقاعدها، وفى الأركان بقايا طعام وشراب سقط على الأرض، ونجوم الحفل ذهب بعضهم إلى السجن، ومن أفرطوا فى الشراب لم يبق لديهم إلا صداع وألم فى المعدة. ولكن الفرصة حول عالم جديد قامت، ولم تذهب، ولم تعد الحسرة تنفع، ولا الحيرة ممكنة، تعالوا نشمر الساعد، فالمهمة كبيرة.
نقلا عن المصر ياليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع