بقلم يوسف سيدهم
بينما تسير مصر قدما نحو إنجاز خارطة الطريق للوفاء بتطلعات المصريين في ثورة 30يونيو الماضي,وبعد إنجاز وإقرار أفضل دستور في تاريخ الدساتير المصرية علي الإطلاق والآمال المعقودة عليه للعبور بمصر إلي التقدم والحداثة,تبرز علي السطح بين الحين والآخر علامات مقلقة يصعب تجاهلها لأنها تمثل ردة في تأصيل وترسيخ مفاهيمالدولة والدستور والقانون.
هذا ملف مسكوت عنه ترددت كثيرا قبل الخوض فيه لأنه يمس مؤسسة علي درجة عالية من الأهمية ولها منزلة كبيرة من التقدير والاحترام كما أنها تؤدي دورا وطنيا تنويريا في هذه المرحلة التي يمر بها الوطن منذ ثورة25يناير 2011 وحتي الآن...إنها مؤسسة الأزهر الشريف التي يجلس علي قمتها واحد من أكثر روادها الحاملين لمشعل التنوير والوسطية والحداثة فضيلة الإمام الأكبر الشيخ الدكتور أحمد الطيب.
ليس هذا مجال الإسهاب في استدعاء الدور التنويري الذي قامت به مؤسسة الأزهر منذ قيام ثورة 25يناير والبيانات والإعلانات والمواقف المتعاقبة التي صدرت عنها تدافع عن الديمقراطية والتعددية وفصل الدين عن الدولة وترسيخ حريات الاعتقاد والفكر والفن والتعبير والبحث العلمي...وكلها مواقف عظيمة تحسب للأزهر لأنها صدرت في ظل سطوة وسيطرة تيارات الإسلام السياسي علي الساحة السياسية والحكم والبرلمان,
وكان من الأيسر علي الأزهر أن يمالئ تلك التيارات,لكنه وقف شامخا عادلا قويا ليرسخ مبادئ وسطية وسماحة الإسلام حتي أنه خاض معركة شرسة مع دعاة التطرف حين تشبث بعدم المساس بنص المادة الثانية من الدستور حين أرادوا إحلال أحكام الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع محلمبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع...وانتصر الأزهر وبقيتالمبادئ لتكون هادية للمشرع في الوفاء بالاحتياجات التشريعية لمجتمع يجاهد للحاق بركب الحداثة والتقدم.
الآن نحن في معركة فاصلة مع التطرف والإرهاب...معركة جعلتنا نقف في أكثر من موقف خلال الأشهر العشرة الماضية نبحث عن الدولة والقانون ونشجب تقاعس الحكومات في الذود عن هيبة وكرامة الدولة وترسيخ سلطة وصولجان القانون,كما وقفنا في وجه التيارات المتطرفة التي دأبت بين الحين والآخر علي الزج بفتاوي مدمرة تفرز بين المصريين وتعيدنا إلي عهود سابقة عانينا من تفشي الفكر الأصولي السلفي ووصايته علي العقل وتفتيشه في الضمير وقسمته للناس بين الجنة والنار لأتفه الأسباب.
فهل يستقيم وسط كل ذلك أن تختلط الأمور علي مؤسسة الأزهر ونجدها تصدر الفتاوي في شتي أمور الحياة التي تبعد تماما عن أمور العقيدة والعبادة والممارسات الروحية لتحددالحلال والحرامبشأنها؟...أين إذا القانون وأحكامه ومواده ودوره في ضبط السلوكيات في المجتمع؟...وما العمل إذا
تعارضت الفتوي مع القانون؟...ألا يخلق ذلك مشكلة نحن في غني عنها؟...وإذا كانت هذه الفتاوي-التي أكرر أنها تخرج عن أمور العقيدة والعبادة والممارسات الروحية للمسلمين لتمتد إلي أمور حياته غير دينية-تصدر عن الرئاسة الإسلامية,فهل تسري علي غير المسلمين أيضا؟...ألا ندرك أننا بذلك نخلق مشكلة نحن في غني عنها؟... أليس الأجدر بنا أن نترك ذلك للدستور والقانون؟...إليكم بعض الأمثلة علي ما أقلقني:
**روعت مصر من الجريمة البشعة التي وقعت في أسوان وراح ضحيتها العشرات من قبيلتي الهلالية والدابودية بين قتلي ومصابين,وهي جريمة نكراء بكل المقاييس تنطوي علي مخالفات صارخة للقانون,ثم بعد ذلك وليس قبله يمكن أن تبدأ جهود الوساطة والمصالحة بين القبيلتين...لكن للأسف الشديد-وفي عنفوان الأحداث الدامية-نجد الدولة ممثلة في رئيس وزرائها ووزرائها ومحافظها تبادر بالجلوس مع القبيليتين قبل إفراز الجناة من وسطهم وتقديمهم للعدالة للتحاور والمصالحة,ثم يقبل فضيلة شيخ الأزهر أن يشارك في تلك الجهود امتدادا لمسار تغييب الدولة والقانون.
**صدرت فتوي مؤخرا عن الأزهر فحواها أن سرقة التيار الكهربائي من مصدر عمومي لإنارة أعمال أو مبان مخالفة وغير مرخصة يعد حرام شرعا(!!)...والحقيقة أني دهشت جدا من هذه الفتوي,فما شأن الأزهر بمثل تلك المخالفات ولماذا يقتحمها بالفتوي وهناك اللوائح والقوانين الكافية للتعامل معها؟...إن الخطورة في ذلك مهما توفرت حسن النوايا وراء تلك الفتاوي تظل هناك مغبة صرف الناس من القانون وتركهم أسري الحلال والحرام.
**كتبت في مناسبة سابقة أتساءل عن جدوي فتوي صدرت عن الأزهر تحدد أن محاربة أسراب الجراد التي تهاجم حدود مصر الجنوبية الشرقية حلال شرعا...وعجبت وقتها من المغزي الكامن وراء صدورها,فمصر منذ عهود طويلة لها سياساتها الراسخة في رصد أسراب الجراد واتباع كافة السبل لإيقافها ومحاربتها قبل أن تغزو الزراعات وتلتهم المحاصيل...تفعل مصر ذلك بعيدا عن الحلال والحرام لأنه ضرورة حتمية لحماية ثروتها الزراعية والذود عن أمان شعبها الغذائي والصحي والبيئي,فلماذا الزج بالفتوي الدينية في هذا المضمار؟...وما العمل إذا طلع علينا أحد المسئولين عن الفتوي في أي وقت ليحرم محاربة الجراد؟!!.
**نتلقي بالتقدير والعرفان فتوي الأزهر قبل كل عيد من أعياد الأقباط للتأكيد علي أن تهنئة المسيحيين في أعيادهم حلال شرعا,لكن بينما تنزل تلك الفتوي منزلة طيبة في نفوس الكثيرين يظل البعض يرقبها بتوجس لتغييب مبادئ المواطنة والتعايش بين المصريين وقبول التنوع والاختلاف بعيدا عن مجرد الحلال والحرام.
**يؤسفني وأنا أخوض في هذا الملف المسكوت عنه أن أسجل ماكتبه بعض إخوتنا المسلمين من الإشفاق علي قيمة وقامة فضيلة شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب لأنه بينما يبذل جهودا دؤوبة لترسيخ السماحة والوسطية,لاتزال المناهج التعليمية في الكليات والمعاهد الأزهرية تزخر بالتعصب والأصولية والتطرف ويعزي إليها تقديم جيل كامل من معتنقي الفكر الأصولي لهذا الوطن...أليس هذا الملف أولي بالإصلاح من فتاوي الحلال والحرام؟.