بقلم يوسف سيدهم
في تحرك مفاجئ لم يتوقعه الشارع المصري يزور نبيل فهمي وزير الخارجية الولايات المتحدة للقاء جون كيري وزير الخارجية الأمريكي وقادة الكونجرس, وتصرح المصادر الرسمية أن الزيارة بهدف تقريب وجهات النظر بين الإدارة المصرية والإدارة الأمريكية,
ويتزامن مع هذه الزيارة إعلان البنتاجون-وزارة الدفاع الأمريكية-عن فك حظر تسليم طائرات الأباتشي المتعاقد علي بيعها لمصر علاوة علي إخطار وزارة الخارجية الأمريكية للكونجرس من أجل استئناف المعونة العسكرية الأمريكية لمصر والتي كان قد سبق تعليقها في أعقاب ثورة30يونية العام الماضي والإطاحة بحكم مرسي وجماعة الإخوان.
أقول إنه تحرك مفاجئ للشارع المصري لأنه جاء في وقت لايزال هذا الشارع أسيرا للغضب والمرارة تجاه الولايات المتحدة-وأقصد في ذلك الإدارة الأمريكية وليس الشعب الأمريكي بالضرورة- نتيجة موقفها المتجني والمعاند والمصر علي اعتبار ماحدث في 30يونية انقلابا عسكريا للاستيلاء علي السلطة وإزاحة رئيس مدني جاء بواسطة صندوق الانتخاب...
لم يجد المصريون وهم يحتفلون بالخلاص من حكم الإخوان مبررا صادقا يشفع لتعامي الولايات المتحدة- ومن ورائها مجموعة من الدول الغربية- عن رؤية الإرادة الشعبية الهائلة التي فجرت30يونية وتزييف ماحدث علي أنه استيلاء للعسكر علي السلطة...في البدء اعتقد الكثيرون أنه سوء فهم من جانب الولايات المتحدة أو أنه تعجل في تقديرها للأمور نتيجة حساسية مفرطة إزاء انحياز قيادة القوات المسلحة المصرية لثورة الشعب سرعان ما يتبدد وينقشع لكن مع مضي الأسابيع والشهور وتمسك الولايات المتحدة بموقفها المتعنت وتماديها في عداء مسار التغيير في مصر بتعليق المعونة العسكرية,تأججت مشاعر الغضب الشعبي تجاه الولايات المتحدة وتلقف الكثير من المصريين نظريات تآمر أمريكا مع الإخوان ضد مصر باندفاع ودون تدقيق وحولوا أمريكا من صديق قديم إلي عدو لدود!!
ولعل ذلك مايفسر الاستقبال الشعبي الحافل للتحرك المصري لإحياء العلاقات المصرية الروسية والحفاوة البالغة لزيارة وزير الدفاع المصري-السيسي- ووزير الخارجية المصري-نبيل فهمي-لموسكو مطلع هذا العام,وهو أيضا ما اعتبره الشارع المصري بمثابة قطع للعلاقات المصرية الأمريكية وبداية شهر عسل جديد في العلاقات المصرية الروسية إيذانا بمغادرة مصر المعسكر الأمريكي ودخولها الفلك الروسي(!!)...والحقيقة أن هذا التصور-الذي نفاه وزير الخارجية المصري في حينه-ظل مسيطرا علي الكافة حتي أنه سيق لتبرير إعادة التقارب المصري الأمريكي الأخير بدعوي اهتمام أمريكا برأب الصدع الذي أصاب العلاقات بين البلدين,ولا نستطيع أن ننكر وجود فتور في العلاقات المصرية الأمريكية لكني لازلت أذكر وأقدر حكمة نبيل فهمي عندما صرح معلقا علي انفتاح مصر علي روسيا مؤخرا أن دور الدبلوماسية المصرية-سيظل دوما لخدمة أهداف ومصالح مصر وأن ذلك يتضمن العمل علي كسب أصدقاء جدد دون خسارة أصدقاء قدامي.
إذا إن كانت الزيارة الأخيرة لنبيل فهمي لأمريكا مثلت مفاجأة للشارع المصري بمخزونه العاطفي المبرر والمفهوم,إلا أنها لم تكن مفاجئة للمراقبين المتمهلين والمدققين الذين كانوا يدركون أنه حتما سوف يحدث قدر من إعادة تقييم ماحدث ويحدث في مصر من جانب الإدارة الأمريكية يسفر عن اعتراف تلك الإدارة بالإرادة المصرية واحترامها لمسار التغيير وخارطة الطريق,هذا علاوة علي اعتراف الإدارة الأمريكية بأن المصريين ثاروا علي رئيس أساء إليهم إساءات بالغة وأنهم منذ ذلك الحين-منذ نحو عام مضي-يتعرضون لضربات إرهابية بشعة من جماعته التي كشفت عن وجهها الإرهابي الدموي القبيح.
والحقيقة أنه ليس مستغربا أن يحدث هذا التحول السياسي في الموقف الأمريكي,فحتي إن كانت الشرارة الأولي التي فجرته صادرة من العرس المصري الروسي,إلا أن التطورات التي تشهدها حاليا الساحة السياسية في إنجلترا لابد أن لها أصداء قوية محذرة عبرت الأطلنطي إلي الساحل الأمريكي تدعو لفحص أنشطة جماعة الإخوان المسلمين وأهدافها وأعمالها الإرهابية وضلوعها في تأجيج التفجيرات والاغتيالات والعنف في مصر...فعندما يصدر ديفيد كاميرون رئيس الوزراء البريطاني أوامره إلي إدارة المخابرات البريطانية بمراجعة تمركز جماعة الإخوان المسلمين الدولية في بريطانيا وطبيعة أنشطتها هناك ومدي تأثر ذلك علي الأمن القومي البريطاني والمصالح الاستراتيجية الدولية لبريطانيا,لابد لأمريكا أن تلتفت وتنتبه وتصغي السمع لما يسفر عنه ذلك...
وعندما تسارع النمسا-حكومة وشعبا-لرفض عزم الجماعة نقل مقر قيادتها من لندن إلي بلدة جراتس النمساوية لابد أن ذلك يرسل رسالة تحذير للولايات المتحدة أن تلك الجماعة ضالعة في مايدينها وتحاول الفكاك من بريطانيا إلي النمسا.
كل تلك التطورات تركت أصداء مهمة تزامنت مع صرخات عديدة ودراسات وتقارير جادة تصدر في الغرب محذرة دوله التي تنعم بالديمقراطية وتحترم حقوق الإنسان وتفتح ذراعيها ملاذا آمنا لكل أتباع الإسلام السياسي الهاربين من دولهم,أن هؤلاء يستفيدون من السماحة التي تبديها تلك الدول وينعمون فيها بالاستقرار والسلام ثم ما يلبثون أن يستقووا ويتمركزوا ويؤسسوا نقاط ارتكاز وانطلاق للعمل العدائي والإرهابي سواء ضد بلادهم الأصلية التي هربوا منها أو ضد المجتمعات الغربية التي فتحت ذراعيها لهم وكانت لهم ملاذا آمنا حيث ينفصلون عن تلك المجتمعات ويكفرونها...وهذا التحذير عينه هو الذي أطلقه مؤخرا توني بلير رئيس الوزراء البريطاني السابق من أنه آن الأوان لوضع حد لممارسات جماعات الإسلام السياسي وأنشطتها الأصولية المتطرفة التي باتت تشكل تهديدا صارخا لقيم وثوابت المجتمعات الغربية واستعصت علي الاندماج السلمي الحضاري فيها.
والآن يبرز التساؤل التاريخي...هل يثوب الغرب إلي رشده؟...هل يمكن أن تتغير أمريكا ومجموعة الدول الغربية وتربط مصالحها الاستراتيجية مع أحلام وطموحات شعوب منطقتنا-وعلي رأسها مصر؟...لقد قال جورج بوش عقب هجمات سبتمبر2001 إن خطأ أمريكا الذي أدي إلي تلك الهجمات أنها استمرت لمدة ستين عاما بعد الحرب العالمية الثانية تربط مصالحها الاستراتيجية بالحكام المستبدين في الشرق الأوسط علي حساب الشعوب وأنه يجب تغيير ذلك بالنظر إلي مصالح الشعوب وتحقيق آمالها في الحرية والديمقراطية...
لكن للأسف لم تفعل أمريكا ذلك وانتقلت من ربط مصالحها بالديكتاتوريات الفاسدة المستبدة إلي الرهان علي جماعات الإسلام السياسي وعلي رأسها جماعة الإخوان المسلمين في مصر حتي تحولت ثورات الربيع العربي إلي كوابيس وكوارث...لكن المعجزة التي أذهلت أمريكا والغرب والعالم كانت أن مصر استعصت علي هذا الرهان وتحطمت الخطة الأمريكية علي صخرة إرادة المصريين وثورتهم وحتما سوف تسير باقي ثورات الربيع العربي التي اختطفها الإسلام السياسي علي نهج مصر.
فهل تعي أمريكا ذلك؟!...وهل يثوب الغرب إلي رشده؟!