بقلم : عزت عزيز
في محاولة لكل منهم أن يرد ولو جزء بسيط من فضلها والتي لولاها ما كان ميلاد أيًا منهم ... نعم فبدونها من كان له أن يُوجد على وجه هذه المعمورة المضطربة؟ ومن وحي عيد الأم وددت أن أكتب ما جاء بمذكراتي عبر عشرات السنين الماضية، هذا بالرغم من أنني لم أنعم بهذا الحنان منذ عشرات السنين أيضًا، ولكن رأيت أن أقص بعض تجاربي وما عايشته من أحداث وقصص أمهات منهن القريبات ومنهن الجارات ووراء كل منهن ملحمة كفاح ووراء بعضهن خيانة للمعاني التي تتحلي بها كل أم...
فلن أنسى مثلاً تلك السيدة التي توفي زوجها وهي بعد لم تكمل عامها الأربعون وترك لها شبابًا وأطفالاً في أعمار متعددة دون دخل ثابت يتعايشون منه، ولكن لم يتركهم الله فجميعهم كان لهم نصيب وفير من التعليم ومنهم من جاهد وعمل بيديه وقلبه، والآخر سافر وشق طريقه خارج مصر. وبعد سنوات طويلة جدًا من الكفاح والحوج ابتسمت الحياة لها عندما رأت أبنائها وهم يحصدون نجاحًا تلو نجاحِ وكبروا وتزوجوا وأصبحوا من أصحاب الملايين... ولكن واأسفاه لقد نسوا من حملت بهم ومن ترملت بهم ومن شربت كؤوس المرارة لأجلهم، فقد أداروا لها ظهورهم حتي أصبحت عائل على كل واحد منهم حتى وصل الحال بهم أنهم يتزمرون من دخولها بيت أيًا منهم حتى أنها طلبت أن تذهب إلى دار المسنين حتى تجد من يعولها بعد جحود فلذات أكبادها. ولا تزال ملقاة فوق سطوح عمارة أحدهم ولا عائل لها!
أما الأم الأخرى التي عايشت حالتها، فهي سيدة الأن في أواخر الخمسينات من عمرها ولديها الكثير من الأبناء وزوجها موظف بسيط بأحد المصانع وراتبة بسيط، فمن أين تلبي حاجة أولادها؟ فكرت أن تذهب عند شقيقتها بالقاهرة لتعمل هناك في فترات متقطعة لتنظيف منازل أصحاب الفيلل والقصور وكانت تترك أولادها بالصعيد، وتعود بعد الشهر لهم ومعها ما يكفي حاجتهم وعوزهم. واستمرت على هذا الحال حتى أنعم لها الله فيهم خيرًا وتخرج منهم إثنين من كليات مرموقة وعملا في أعظم المجالات ويأخذون بيد أخوتهم الأخرين ليخففا عن والدهم الذي أصابة المرض ويرقد الآن، ولكن أولاده لم يتركوه ويحملونه وأمهم على كفوف الراحة والحب ورد الجميل!
أما الوجه الآخر أو النوع الآخر من الأمهات، فعاصرته في حالتين، أولهما تلك السيدة التي توفي زوجها وهي بعد لم تكمل عامها الثالث بعد العشرون وكانت قد أنجبت طفلة صغيرة جميلة وعمرها أربعة أعوام فتركتها لدى جدتها لأبيها والتي قامت بتربيتها أحسن تربية ومدت يديها للغير حتى تلبي احتياجات ابنة ابنها. ومرت الأيام بمرها دون حلو فيها حتي وصلت هذه الطفلة للمرحلة الجامعية ولا تزال الجدة تمد يدها لتكمل رسالتها التي انفردت بها دون زوج أو ابن أو بنت يقود معها هذه الدفة لسفينة صغيرة، لكنها تحتاج للكثير من العون!
علي نفس شاكلة هذه الأم التي نسيت رضيعها، عايشت واقعة أخرى لتلك السيدة التي تركت أولادها صغارًا وتزوجت بشاب يصغر أولادها بكثير كان قد تقدم في يوم من الأيام ليتزوج بابنة لها، لكن حيل حواء كانت أقوى وتزوجت به وتركت أهلها وصغارها، ولكن الله قد وعد أنه لن يتركهم حتي ولو نسيت الأم رضيعها وها هم الآن رجالاً ونساءًا ويعولون أولادًا، وهي تعيش في عالم آخر!
وهل لي أن أنسى هذه السيده المكافحة التي توفي زوجها وتركها وحيدة ومعها كوم لحم كما يقولون؟ فهو كان يعمل بيديه بشكل غير منتظم، ولديه من الأولاد والبنات الكثير وكافحت الزوجة وبكل ما تستطيع حتى ربت كوم اللحم هذا المتمثل في الأولاد والبنات بمراحل التعليم المختلفة، ومدت يدها بالطبع وكان أهلها أول من وقفوا بجوارها. وبدأ أولادها يعملون بالمعمار وسقط أحدهم من أعلى مبنى ولقى حتفه، مما هز كيان أمه. ولذلك احتضنتهم أكثر وكبروا وتخرج منهم من الكليات ما تخرج وسافر منهم للخارج من سافر وتمر الأيام وتبتسم الحياة لها عندما ترى أولادها وهم يلعبون بعشرات الملايين بعد رحلة عذاب مريرة لا يمكن وصفها أو تخيلها!
هناك الملايين من القصص التي تحكي عن أمهات بعد وفاة أزواجهن رفضن الزواج مرة أخرى، حيث فضلن لذة تربية الأولاد ورعايتهم عن اللذة الوقتية الزائلة وعشقن مرارة العوز والفراق والوحدة عن التزوج بزوج جديد. والكثيرات منهن تم تكريمهن كأمهات مثاليات ووراء كل منهن قصة كفاح ونضال لا تقل أبدًا عن نضال وكفاح الجنود في ساحة الحرب وبعد حصاد النصر.
قصص ووقائع حقيقية عايشتها عن قُرب وتأثرت بها ولا زلت أذكرها وأتعلم منها وتسائلت كثيرًا وقلت كيف لهذا المخلوق الجميل الرائع الوديع الذي يبدأ بطفلة صغيرة فبمراهقة خجولة ففتاة لطيفة فزوجة هائمة فأم حنونة، أن يحمل كل هذه الصفات وينقلب بصفاتة من التضحية بكل ملذات الحياة وشهواتها ونعمها إلى النقيض من ذلك حتى أنها تترك أولادها لأجل أمور زائلة وقتية؟
مهما كتبنا عن الأم فلن نعطيها حقها من تكريم وتبجيل وتقدير وحب واحترام، بل وتقديس، لأن الكتاب المقدس يقول: "اكرم أباك وأمك لكي تطول أيام حياتك على الأرض". و يقولون أيضًا "أن الجنة تحت أقدام الأمهات" فهل لك أيها الإنسان ـ الذي تعمدت ـ أن لا تنطق وتقول لها كل سنه وأنتِ طيبة يا أمي، أن تتحرك الآن وتقوم وتلقي بنفسك تحت قدميها وتقول لها سامحيني يا أماه فأنا بدونك لا أساوي شيئًا؟