محمد القصبي
بماذا انشغلت النخبة المصرية على مدار الأسبوع الماضي ؟ لم يكن انشغالا بل هلعا .. أو على الأقل الكثير من رموزها تظاهروا بذلك ..حين شاعت فيديوهات التحرش الجماعي في ميدان التحرير والشوارع الجانبية خلال مظاهرات الاحتفاء بانتخاب السيد عبد الفتاح السيسي رئيسا للجمهورية ..ولاأظن أن قلوب النخبة أوجعها الحدث كما بان عبر الفضائيات ..
هو إعلام يتلهف لحوادث مثل هذه وغيرها يرى فيها مادته الخام التي يعيد تدويرها عبر خطوط انتاجه سلعة مثيرة للمشاهد فالمعلن ..ونخبويون يتظاهرون بذرف الدموع على الضحايا وكل ما يعنيهم الرغبة في الظهور والإدعاء بأنهم الشطر الملائكي في هذا المجتمع ..وحماة أخلاقياته وقيمه ..
وسياسيون يتسابقون في إطلاق التصريحات النارية احتجاجا وتنديدا ..
لكن الغالبية العظمى من المصريين لم يتعاملوا مع الأمر بأنه كارثة مجتمعية ينبغي أن تنهض الدولة عن بكرة أبيها لمواجهتها ..كثير من الناس أظهروا شيئا من الحزن سرعان مابخره سعير الحياة من ارتفاع أسعار وقلة دخول وبطالة وإرهاب .. وآخرون تساءلوا في سخرية ..في غضب : وأيه اللي يطلع بنت الساعة 11 بالليل ميدان التحرير ؟ وإزاي أهلها يسمحوا لها تخرج باللبس ده !!!
هذا مانسمعه في مجالسنا الخاصة وعلى المقاهي و مصاطب الفيس بوك ونقرأه في التعليقات التي تذيل أخبار التحرش على المواقع الأليكترونية .
وحتى الذين لم يروا الكارثة من هذه الزاوية حملوا الشرطة المسئولية.. سمعت هذا من أحد المارة في شارع رمسيس :شوارعنا ماعدتش آمنة ..علشان بناتنا تمشي فيها براحتها ..الأمن مشغول بالأخوان ..يعني أمن سياسي زي أيام مبارك !!
بعبع الثانوية العامة
وماذا أيضا يشغل المصريون غير حوادث التحرش ؟
بعبع امتحانات الثانوية العامة ..حالات هيستيريا أمام اللجان ومظاهرات أمام وزارة التربية والتعليم ..وأباء يسبون وزير التربية والتعليم بأقذع الشتائم على المواقع الإليكترونية والفيس بوك ..وأمهات يتضرعن إلى إلله سبحانه وتعالي إن يوريهم فيه يوم ! رغم أن بكاء وغضب بعض هؤلاء ليس لأن فلذة الكبد معرض للرسوب ..بل لأنه أخطأ في تفريعة أو تفريعتين من سؤال ..وبالتالي لن يتمكن من الحصول على 100% !! رغم أن مسألة ال100% اختراع مصري يثير استهزاء العالم بنا !..وهي لاتعكس حالة التعليم الرديء في مصر .. فطبقا لتقرير حديث للتنافسية الدولية حول تقييم تعليم الرياضيات والعلوم في 148 دولة احتلت مصر المرتبة 145 !!!
وبالطبع لايتغافل العقل الجمعي المصري عن أم الكبائر ..الإرهاب !
والكبائر تتعدد في مجتمعنا ..الفقر ..البطالة ..الفوضى التي لانقبل ب "منظومة " سواها لتسيير أمورنا في البيت والشارع والمرور والعمل .
المدرسة انهارت
فمن المسئول عن حالة الانهيار تلك التي نعاني منها ؟
ليس وزير الداخلية ولاوزير التعليم ولاأي مسئول في النخبة الحاكمة الآن ..
بل انهيار المدرسة .. منذ ما يقرب من أربعة عقود ونظامنا التعليمي يجري تقويضه دون أن ننتبه ..أو نرى ونتجاهل ما نرى..
انهارت المدرسة فانهار كل شيء..
وحين تنهار المدرسة نتحول إلى مجتمع يسير الناس أمورهم على الدجل والشعوذة والفهلوة والنصب والتسول ..ظواهر تدفع بأي مجتمع إلى خارج خارطة الحضارة الحديثة .. "وأنا أكتب سطوري هذه يصلني صوت مذيع في إحدى فضائياتنا يعلن بحماس عن أعشاب تعالج كل الأمراض المعروفة وغير المعروفة من فيروس سي ..لكل أنواع السرطانات ..مرورا بالانفلونزا وفقدان الشهية والنحافة والبدانة وكمان الأعشاب دي بتطول وتكبر وتخلي أي راجل حديد في بيته !!! "
وفي منتصف أبريل الماضي لم تفاجئنا الصحف بما نشرته عن حكاية الزوجة اللي واقعها دجال علشان يطلع من جتتها الجن أمام زوجها .. حدث هذا في أوسيم بالجيزة يوم 14أبريل الماضي!!!!وقبلها ألاف المرات في مدننا وقرانا ..وسوف تتكرر بنفس السيناريو ربما مرارا !!
وقد يرى البعض أن تلك ممارسات جهلاء وأميين ..!
بل ومتعلمون ..وبعضهم ينتمي إلى النخبة
مدير تحرير في إحدى الصحف القومية عاش حياته مهووسا بالجن والعفاريت والمشايخ..استطاع أن يقنع رئيس التحرير بتخصيص صفحة أسبوعية عن هذه الأمور كان ضيوفها دجالون ومشعوذون وناس بتقرأ الكف ..ولم يأبه رئيس التحرير بصراخي ..وقال :دي الموضوعات اللي بتشد الناس !!!! ..وأتذكر أن مدير التحرير هذا نشر حوارا مع أحدهم تنبأ فيه باختفاء الدولة اليهودية عام 2022..كيف عرف هذا ؟ قال الفلكي العبقري :من خلال حسابات خاصة غير حساباتنا المعروفة ..حسابات تتدخل فيها النجوم والجن وأشياء من هذا القبيل .. حدث هذا قبل 10 سنوات .. وفي نفس الأسبوع الذي نشر فيه هذاالحواربجريدتنا القومية ..صدر في إسرائيل كتاب للباحث اليهودي "أورلي أوزلي " عنوانه "هل ستبقى إسرائيل حتى عام 2048 ؟" يتنبأ فيه بزوال دولة إسرائيل في ذاك التاريخ ..أما كيف عرف هذا ..فليس عن طريق الجن ومشايخ الدجل ..بل من خلال أبحاث ودراسات اقتصادية وديموغرافية ..وتوقعات للخريطة السياسية العالمية خلال ثلاثينيات وأربعينيات القرن الواحد والعشرين ..وعوامل كثيرة يرى أنها يمكن أن تؤدي إلى زوال إسرائيل من وجهة نظر الباحث ..هكذا هم يفكرون ..وهكذا نحن نفكر.. التفكير الخرافي يهيمن حتى على عقول النخبة المصرية! والنخبة بالطبع هي مخارج النظام التعليمي المصري وليس الفرنسي أو الأمريكي.
عودة لوزارة المعارف
وأين مكمن الداء في نظامنا التعليمي ؟
حتى مطلع الخمسينيات من القرن الماضي كانت ثمة لافتة على مدخل الوزارة التي تتولى تجهيز أطفالنا ليكونوا مواطنين صالحين وإيجابيين .. كتب عليها "وزارة المعارف"
..وهذا مانريده الآن ..أن نلقي بلافتة وزارة التلقين أقصد وزارة التعليم جانبا ونعيد لافتة وزارة المعارف ..!
هذا مدخلنا لعلاج كل مشاكلنا القاسية ! تحويل الوزارة إلى وزارة للمعرفة وليس للتلقين ! بحيث تصبح المنظومة التعليمية معملا للتنقيب عن المعلومة وربطها بغيرها من معلومات ..وكيفية التعامل معها .. وتتحول فصول الدراسة إلى معامل للتفكير والتحليل والاستنباط ..وواحة للارتقاء بملكة التذوق ..فنحسن اختيار مايطربنا من أغاني وأشعار ..ونحرص على جمال شوارعنا ومنازلنا ونرتقي بأناقتنا ..ونحتفي بروح المودة والتعاون في البيت والشارع والعمل ..ولايكون الهدف من وراء امتحان آخر العام ..قياس مدى قوة ومتانة الذاكرة ..بل قياس مدى قدرة الدماغ على أن يرى ويعي ويحلل ويستنبط ومدى استشعار ملكة التذوق في الوجدان لجماليات الحياة ..حين يكون هذا حال التعليم فلامانع من السماح للطالب بأن يصحب معه إلى داخل لجنة الامتحان كتبه اامدرسية ومحموله .. فالسؤال لن يكون عن معلومة حفظها ..بل عن كيفية تعامله مع المعلومة ..وقدرته على ربطها بغيرها من المعلومات ..وفي امتحانات مثل هذه يكون عبقريا من يحصل على 75 أو 80% .. وكل الناجحين في منظومة مثل هذه سيلتحقون بالكليات ليواصلوا رحلة البحث والتحليل والاستنباط ..وكل الكليات ستكون كليات قمة وستخرج شبابا تتصدر قائمة شهواته ..شهوة المعرفة ..! وشباب هذا حاله سيصبح مرحبا به في سوق العمل ! .. ومنظومة تعليمية هذا حالها سيتوصل الطالب بنفسه إلى أهمية قيم الخير والحب والتسامح والعمل والتعاون ..وحين يتوصل إليها بنفسه سيكون أكثر حرصا عليها في حياته من أن تحفظ له !
أنا وابني والشيبس
أتذكر ..في إحدى الأمسيات كنت أعاون إبني حين كان في الصف الثالث أو الرابع الابتدائي على استذكار درس بمادة العلوم حول المضار الصحية لبعض المواد التي تضاف إلى مأكولات الأطفال من روائح و ملونات ومذاقات وغيرها .. بالطبع المصانع تلجأ إلى إضافة هذه المواد الكيماوية المثيرة للشهية لإغراء أطفالنا بالشراء ..ولأن الدرس من وجهة نظر إبني مثيرا للضجر ..فقد رأى أن خير وسيلة للقضاء على هذا الضجر أن " يتسلى " بالتهام كيس بطاطس شيبس مثقلة كما يبدو من لون شرائحها ورائحتها النفاذة بهذه المواد ..وكان الطفل يردد خلفي كالبغبغاء ما أقوله عن مضار هذه الأغذية وهو يلتهم شرائح الشيبس..فتوقفت عن القراءة متأملا هذا المشهد السيريالي ..و الذي أضيفت إليه مسحة من الفانتازيا في اليوم التالي حين عاد الطفل من المدرسة مبتهجا ليبشرني : معلمة العلوم اختبرتنا اليوم في درس الأمس ..وقد حصلت على الدرجة النهائية !! ..قال لي ذلك ..وهو منهمك في التهام عبوة ضخمة من الشيبس !
تلك الواقعة تجسد ماتعانيه منظوماتنا التعليمية من عوار جسيم ..إنها ترتكز على الحشو المؤقت للمعلومات في ذاكرة التلميذ دون وعي بأهميتها ..ولاشيء آخر.. التلميذ يستجيب في سأم لهذه العملية "الكريهة " دون أدنى تفكير في كيفية تطويع هذه المعلومات بما يفيد حياته اليومية ..هذا بالضبط ما تفعله وزاراة التعليم ..مجرد التعلم ..وقد يكون قسريا ..كما هو الحال في مدارسنا ..إخضاع أطفالنا لجراحة يومية لحشر المعلومات في ذاكرتهم ..مع التذكير بما سيلقونه من عقاب إن تهاونت الذاكرة في الاحتفاظ بالمعلومة حتى امتحانات آخر العام ..أما بعد تفريغ المعلومة في كراسات الإجابة ..والحصول على أعلى الدرجات ..فهم في حل من الاحتفاظ بالمعلومة ! والنتيجة كما نراها في امتحانات الثانوية العامة ..غش بالموبايل ..حيث ثمة من يقبع خارج اللجان يملي الإجابة على الطلاب بالمحمول ..أخي الصيدلي حين اتصل بي ليطمئن على ابني الطالب في الثانويةالعامة عقب انتهاء امتحان اللغة العربية .. أكد أن اللجنة في القرية كانت " سايبة" ..فمدرس اللغة العربية انزوى في كشك مجاور للجنة ولقن طلابه الإجابات ..! وليس المقصود بطلابه طلاب الفصل ..فلم يكن ثمة فصل ..لاأحد من طلاب الثانوية العامة يأتي إلى المدرسة ..فكيف يأتي إلى المدرسة في فترة الصباح وهو مرتبط بالدروس الخصوصية !! المقصود بطلابه طلاب زبائنه في الدروس الخصوصية ..!!! أي أن النظام التعليمي لم ينته أبدا بترسيخ قيم الحق والعدل والحلال والحرام ..وكيف ينتهي إلى ذلك إن كان المحرض على الغش المدرس نفسه !!! ووزير التعليم وكبار المسئولين بالوزارة يغمضون عيونهم عن تلك الكارثة ..الغش ولو من قبل تلميذ واحد يعني أن هذا الطالب سرق فرصة طالب غيره لم يتمكن من الغش ! في الالتحاق بالكلية التي يريد ..!
دروس العاشرة صباحا
ولأنها مسألة تلقين وحفظ للمعلومات ..فمن الممكن أن تتم في البيت ..عبر مدرس خصوصي !..وبلغ الأمر أن المدرس يحدد لابني مواعيد الدرس صباحا ..العاشرة ..الحادية عشرة ..وبدا الأمر طبيعيا جدا ! لاابني يذهب إلى المدرسة ولا المدرس ..ولا الناظر مهتم ..ولامدير الإدارة ولاالوزير ..!
و حتى يؤدي المدرس الخصوصي مهمته " الوطنية والتربوية " على خير مايرام يستعين.. ب 450 كتابا ليس بينها كتاب المدرسة التي تنفق الوزارة على تأليفه وطباعته مليارات الجنيهات سنويا كلها كتب خارجية ..بالإضافة إلى مذكرات يقوم المدرس نفسه ب" تأليفها " وبيعها لطلابه كوسيلة لزيادة الدخل ..! والكتب والمذكرات كتبت لتحقيق هدف واحد ..تيسير مهمة التلقين ..ويؤكد أيمن البيلي وكيل نقابة المعلمين المستقلة أن الأسر المصرية تنفق 22 مليار جنيه سنويا على الدروس الخصوصية..
فإن أضفنا ثلاثة مليارات جنيه يتكبدها أولياء أمور 18مليون طالب في شراء الكتب الخارجية والمذكرات..تصل الفاتورة التي يتعين على المصريين أن يدفعوها 25 مليارا ..فإن أضفنا إلى ذلك 50 مليارا تنفق على ميزانية التعليم ..يصل ما ينفقه هذا الشعب المعذب بفقره إلى 75 مليار جنيه سنويا على منظومة تعليمية فاشلة أدت إلى انهيار كل شيء في المجتمع..ألا يبدو هذا محزنا ! بل ومأساويا !!
المدرس في حاجة إلى تعليم
ولايمكن النظر إلى الدروس الخصوصية كسبب لانهيار العملية التعليمية ..بل هي أيضا عرض ..وهذا ما نوه له الدكتور
أحمد يحيى أستاذ علم الاجتماع حين كان يعلق عبر قناة الحدث على حالات العنف داخل المدارس .والتي وصلت الى حد مقتل أحد المدرسين.. حيث أوضح أنه من أهداف المدرسة أن تربي وتقوم سلوكيات الفرد باعتبارها أحد مؤسسات تقويم السلوك وبناء الشخصية.. ولكن للأسف نسينا او تناسينا ان المدرسة جزء تربوي داخل المجتمع وليست مجرد مباني.
وقال الدكتور يحي : المجتمع المصري لا يعيش اي نوع من أنواع الحياة الأخلاقية السوية ويعاني من امراض سلوكية ويوجد فقدان في القيم الاساسية التي تضمن احترام المعلم والكبير واحترام التعليم وسبب فقدان تلك القيم في مجال المدارس هو اننا اعتبرنا التعليم سلعة وليس خدمة فتم المتاجرة به وباع المدرس نفسه وشخصيته ومكانه واصبح يمد يده للطالب في الدروس الخاصة .مما أدى الى ضعف شخصيته.
وأكد الدكتور يحي أن الطريقة التي يتم بها تعليم المدرس نفسه في الكلية تفتقر للتربية الصحيحة لأنه يحصل على مواد علمية فقط وينبغي على كل طالب ينتوي الالتحاق بكلية التربية أن يخضع لكشف نفسي قبل أن يتم قبوله بالكلية .. فالمدرس لم يتم اعداده اعدادا جيدا ويعاني من مشاكل مادية ونفسية وحتى على مستوى المناهج فإنها أصبحت تخضع لمزاج وزير التعليم والسلطة الحاكمة ونسمع منذ صغرنا عن تطوير التعليم لكنه لم يتطور ابدا إلا في الشكل ولم يتطور في المضمون .
جشع جمعي
وبالطبع البعض يطالب برفع كادر المعلم كوسيلة للقضاء على الدروس الخصوصية ..فهل ممارسة المدرس لهذا النشاط غير الشرعي بل المدمر مرجعه ..قلة الدخل ؟ ليس دائما ..بل هي حالة الجشع والشراهة التي استبدت حتى بأصحاب الرسالة..الطبيب والصيدلي والمدرس والمحامي وأستاذ الجامعة ..و ..إن كان
المدرس حدد سعر حصة الفيزياء ب120 جنيها ..فلأنه يعرف أنه إن مرض وتوجه إلى الطبيب ..فسوف يدفع كشفا 200جنيه ..وسوف يطالبه الطبيب بأشعة وتحاليل من مراكز بعينها قد يكون شريكا فيها ب300 جنيه ..وقد يكتب له روشتة أدوية معينة من انتاج شركات بعينها يتلقى منها هدايا ب200جنيه ..وإن واجه المدرس مشكلة قضائية وطرق باب المحامي فسوف يستنزف كل ما ادخره ..والجميع أنا والطبيب والمحامي والمذيع ..حميعنا نحب مصر ونغني يا حبيبتي يامصر.. بل بعض مذيعاتنا رقصن في عرس تنصيب السيسي وهن يغنين مصر اليوم في عيد ..والمحامون لايكفون عن وقفاتهم أمام النقابة من أجل مصر وعيون المصريين والأطباء كذلك ..كل يضع يده في جيب الآخر وهو يبسمل أو يغني يا حبيبتي مصر ..!يحدث هذا وقد أمضى كل منا على الأقل 16سنة في صفوف التعليم يفترض أن يكون قد تعلم خلالها القيم والأخلاق وحقوق المواطنة ..ولأن المدرسة لم تقم بهذه الرسالة ..حيث ينشغل المدرسون في طرق أبواب منازل التلاميذ منذ الصباح الباكر يحفظون ويلقنون التلاميذ المناهج ..يصبح أبناءنا صيدا سهلا لمشايخ الإرهاب.!
ليسوا مثقفين
ألا تتفاخر جماعة الأخوان أن عددا كبيرا من كوادرها وقياداتها أطباء ومهنسين و صيادلة ..وأصدقهم ..جاري خبير الطاقة ..في كل أحاديثنا لايبدي وجهة نظر خاصة ..بل يردد ما تردده الجزيرة وموقع الحرية والعدالة .. ومشكلة جاري..هي مشكلة الألاف من " النخبويين " ..أنه تأسس على هدف واحد ..أن يتفوق في الدراسة ..لذا لاعلاقة له بأي كتاب غير كتاب المدرسة ..حفظه حرفا حرفا ..دون أدنى تفكير ..فالحفظ في منظومتنا التعليمية وليس التفكير أقصر الطرق للوصول إلى الهدف ..أن يكون مهندسا أو طبيبا أوعالما نوويا..
وبالتالي لم يعرف سوى ما تلقن من المدرس الخصوصي ..ثم بعد ذلك من الجماعة التي التقطته من المسجد صغيرا وأصبح عجينة طيعة في أيديها ..فتأسس أحادي الفكر ..لم يخض تجربة الحوار الذاتي في مدنه الداخلية ..لم يذق متعة الدهشة وماتقود إليه من أرق الأسئلة التي ينفق عمره في البحث عن إجابات لها .. لذا يظن أن جماعة تحدثه عن الجنة والنار ..جماعة أودعها الله كلمته ..لاسبيل للخلاص إلا من خلال ترديد عبارة سمعا وطاعة وراء قادتها ..وكل من يخالف فهو كافر مصيره جهنم ..تلك هي مأساة ألاف " النخبويون " في مصر!لذا نرتكب خطأ جسيما حين نبندهم في شريحة المثقفين ..حتى من يحترف منهم مهنة الكتابة صحفيا كان أو شاعرا أو حكاء ..فالمثقف الحقيقي ذلك المتأججة روحه بشهوة المعرفة ..يسأل ويقرأ ويحاور ..وتتدفق حصيلة كل هذا في معامل الدماغ لينتهي إلى رؤاه الموضوعية والمجردة من الأهواء والمصالح ..و قد يصيب وقد يخطيء ..لكنه أبدا لايذبح من يختلف معه باعتباره كافرا !
فكيف يكون المخرج ؟
البعض يرى أن المنظومة التعليمية تعاني من نقص الإمكانات ..وهذا صحيح إلى حد كبير ..موازنة التعليم تصل إلى 50مليار جنيه ..ينفق 80% منها على المرتبات ! ونصيب التلميذ طبقا لما يقوله الخبير التربوي الدكتور كمال مغيث لايزيد عن 500جنيه في السنة ..في الوقت الذي يصل فيه نصيب التلميذ الإسرائيلي إلى 3ألاف دولار
.
لكن من المهم جدا مع توفير الإمكانات تغيير فلسفة وآليات المنظومة التعليمية ..والبداية باستعادة الإسم القديم للوزارة لتعود وزارة المعارف ..
فليس التلقين والحشو مانريد..بل نريد المعرفة.. فاكتساب المعرفة أمر مغاير ..أو مرحلة أكثر ديناميكية وتفاعلا من مرحلة التعلم التلقيني .
المعرفة تجعل الدماغ في حالة يقظة دائمة وتأهب ..
وكما نعرف فالإنسان مخلوق مندهش .. مع أول انفراجة لعينيه وهو وليد يطل على العالم حوله في اندهاش ..ومن الدهشة تتوالد الأسئلة .. وترافق الدهشة
حالة اشتهاء للجديد ..للمعلومة .. وطالما أنه في حالة اشتهاء للمعلومة ..فهو يسعى إليها باحثا ومنقبا عنها في كافة مصادرها ..عبر حواسه الخمس ..عبر التأمل ..التجوال ..القراءة ..الخبرات ..الاشتباكات الحوارية ..بدءا ودائما مع أفراد أسرته ..وبعد ذلك مع مدرسيه!
طفل مثل هذا سيظل مؤرقا بقضية المعرفة وكيفية توظيفها في الرقي بحياته وأسرته ومجتمعه ..وقد يكون منتجا لها ! وبدلا من أن تقوم المدرسة بهذه المهمة تختفي ليمارس المدرس الخصوصي مهمة
التلقين القسري لمعلومات لايعي الطفل أهميتها لحياته ..فطفلي يردد خلفي الأضرار الصحية لبطاطس الشيبس والمشهيات الكيماوية المضافة إليها وهو يلتهمها!
لذا تكاد كل التعريفات للمعرفة تتفق حول كونها الإدراك والوعي وفهم الحقائق أو اكتساب المعلومة من خلال التجربة الذاتية أو تجارب الآخرين أو من خلال التأمل في طبيعة الأشياء وتأمل النفس وقراءة استنتاجاتهم ..كما يراها البعض مرتبطة بالبديهة والبحث لاكتشاف المجهول وتطوير الذات.
ويعرف قاموس أوكسفورد الإنكليزي المعرفة بأنها :
أ - الخبرات والمهارات المكتسبة من قبل شخص من خلال التجربة أو التعليم .
ب- الفهم النظري أو العملي لموضوع ما.. ومجموع ما هو معروف في مجال معين.
ج -الحقائق والمعلومات و الوعي أو الخبرة التي اكتسبها الإنسان من الواقع أو من القراءة أو المناقشة,
وحين يمضي المرء رحلة عمره مهموما بالمعرفة ..من أجل الارتقاء بحياته وأسرته ومجتمعه ...فسوف يسعى خلفها دائما ..وبهذا نصبح شعبا شغوفا بالمعرفة في كل مناحي الحياة..إن أردنا أن نعرف شيئا عن مستقبل إسرائيل فكرنا وبحثنا في العلوم السياسية والعسكرية والاقتصاد والديموغرافية وليس للجن والعفاريت والأبراج !
وحين ينشط الدماغ منذ الصغر فلن يكون سهلا على شيخ أو أمير جماعة أن يخدعنا ويسوقنا إلى خنادق التكفيريين ..وسوف تتحول مدننا إلى حدائق من الجمال .. ألم ننتبه إلى هذا؟ ..منطقة وسط البلد درة القاهرة ..بمبانيها العريقة ومعمارها الرائع .من هم ساكنوها ؟ ..أطباء ومهندسون ومحامون وشركات تصدير واستيراد ..وعدد كبير من هذه الشقق إيجار قديم ..الإيجار الذي يدفعه الطبيب لايزيد عن 50 جنيها وربما أقل ..ودخله لايقل عن 3 ألاف جنيه يوميا ..ومع ذلك الجدران قبيحة ومغبرة ومتقيحة والمصاعد معطلة وخزانات المياه خزانات لفيروسات الموت ..فإن طلب منه مئة جنيه للإصلاح أو التجميل ..يماطل ويسوف ..! في العمارة التي أقيم بها في مدينة نصر ..أربعة من علية القوم يرفضون دفع المبلغ الشهري لتسديد فاتورة الكهرباء والأمن والمياه ..أحدهم رئيس قسم في جامعة خليجية دخله لايقل عن 150ألف جنيه شهريا ..! إن هذا الأستاذ الجامعي نتاج منظومة تعليمية لقنته المعلومات التي يحصل بها على 100% في امتحان الثانوية العامة ليلتحق بكلية الطب ..ويصبح أستاذا جامعيا ..لكن تلك المنظومة لم تعلمه كيف يتعايش في حب وتعاون وإيجابية مع جيرانه ..؟ لم تعلمه قيمة الجمال ..لذا يسخر منا سرا في قرارة نفسه إن طالبناه بمئة جنيه لتجميل مدخل العمارة ..لكنه جهرا ..في الحقيقة يبدو ودودا مبتسما..وهو يمنحنا وعودا ..لاتتحقق أبدا!
تجارب الآخرين
وبالطبع مجرد تغيير لافتة الوزارة لايعني أننا سنتحول بين يوم وليلة إلى مجتمع معرفة ..بل الأمر يقتضي إعادة هيكلة العملية التعليمية لتفي بمقتضيات مجتمع المعرفة هذا !
وأذكر في هذا الشأن ماقاله الدكتور
فاروق اسماعيل رئيس جامعة القاهرة السابق أن شباب اليوم أمامه آليات للمعرفة لم تكن متاحة على أيامنا..ولكن يصاحبها الآن ما أصاب التعليم من أمراض على رأسها الدروس الخصوصية التى تدرب الطالب على مهارات الاجابة على أسئلة معينة منتقاة، من خلال الأمثلة المحلولة فى كتب الوزارة أو فيما يسمى ببنك المعلومات، وهو ما جعل أغلب طلبة الثانوية العامة يجيدون التعامل مع ورقة الامتحان مما تسبب فى رفع درجاتهم بنسبة لا تتناسب مع حجم ثقافتهم ..
ومن المهم جدا أن نعرف تجارب الدول المتقدمة ..وهذا ما يشير إليه الدكتور إسماعيل خلال تصريحات صحفية ..فامتحان الثانوية العامة أصلا لا يوجد فى كثير من دول العالم، وانما هناك امتحان فى نهاية تلك المرحلة لكل مدرسة أو اقليم ويكون الالتحاق بالجامعات فى هذه الدول عن طريق اختبارات قبول ضمن اختبار شامل فى كل حصيلة الطالب السابقة من المعرفة بجانب قياس الذكاء وقدرات التفكير اللحظى..ففى اليابان الأكبر منا تعدادا بكثير - والكلام لرئيس جامعة القاهرة السابق - يتم عقد امتحان فى شهر فبراير من كل عام، وتنتقى كل جامعة أفضل الطلاب بالنسبة لها..
وهذا الذي يقوله الدكتور اسماعيل يتناسب تماما مع ضرورة تحويل المنظومة التعليمية من التلقين إلى المعرفة .
أهو نقص الإمكانيات ..؟
بالطبع مصر في حاجة إلى مضاعفة موازنة التعليم ..من 50مليار جنيه لتصل إلى مئة مليار وربما أكثر ..نحن لسنا فقط في حاجة إلى عشرات الآلاف من المباني المدرسية المجهزة بكافة الوسائل التعليمية الحديثة .بل إلى معلمين ينبغي الإنفاق على إعدادهم وتجهيزهم من خلال دورات تدريبية في مصر والخارج لتحديث أدمغتهم بحيث تكون قادرة على التفاعل المعرفي مع الطالب ..وإثارة شهوة المعرفة لديه لتظل متأججة على مدار سنوات عمره .
لكن الأهم من المال ..الانضباط ..فحين يستبدل التلميذ المدرسة بمدرس خصوصي يأتيه الساعة العاشرة صباحا !!! وتحت مسمع ومرأى الناظر ومدير الإدارة والوزير ..فحتى لو أنفقنا على التعليم تريليون جنيه سنويا .. فلاجدوى!!
وأخيرا أجدني مضطرا إلى أن أختم
سطوري هذه بمقولة رجل لم أحبه أبدا ..ولم يحبه جيلي .. الرئيس الأمريكي الراحل ليندون جونسون ..كرهناه لتآمره على مصر والعرب خلال العدوان الإسرائيلي في يونيو 67..لكن أزاء قضيتنا هذه كان له رأي سديد ..حيث قال مرة : كل مشاكل أمريكا ..وكل مشاكل العالم ..يمكن أن تحل من خلال كلمة واحدة ..التعليم !..