بقلم يوسف سيدهم
لأنها من أبشع الأمور المسكوت عنها,آن الأوان أن تنفجر في وجوهنا جميعا قضية التحرش الجنسي,بعد أن استمرأ المجتمع غض البصر عنها تارة والتقليل من شأنها تارة أخري...لكن مهما حاولنا الزج بها تحت السطح أو إزاحتها من أمام أعيننا,تظل هذه القضية هي أسوأ سبة في حق الوطن وأبلغ فضيحة في حق رجاله.
أقول ذلك لأننا بعد أن كنا نسمع منذ نحو نصف قرن من الزمان عن تجرد رجل من رجولته ومن آدميته واستباحته التعرض لأنثي رغما عنها في مكان معزول بعيدا عن مسمع أو مرأي الآخرين,وبعد أن كان ذلك يمثل قمة الخسة والوناءة وانعدام الرجولة,بات واقعنا المخجل المشين يحمل لنا صور التحرش بسيداتنا وأخواتنا وبناتنا في وضح النهار وفي كل مكان وبشتي السبل المنحطة وسط الأماكن المأهولة والمزدحمة بالحركة ووسط الصخب والضوضاء وتحت سمع وبصر الكافة.
وإذا كان بعض أشباه رجالنا يسقطون في تلك الخطيئة ويرتكبون تلك الأفعال المشينة الغريبة عن أخلاقنا وقيمنا فالكارثة ليست فيهم حقا...هم منفلتون يستحقون كل ألوان الإدانة والعقاب,لكن يظل المجتمع كله وفي مقدمته كل رجاله في موضع المساءلة والتجريم علي صمته المخزي وعجزه المخجل عن التصدي لإيقاف جريمة التحرش بكل ألوانها ودرجاتها.
بعد كل جريمة مشينة من جرائم التحرش أو الاغتصاب ينتفض المجتمع ويملأ الدنيا صخبا وضجيجا مطالبا بالقصاص وبتغليظ العقوبات في القوانين...وذلك بالفعل مطلوب,لكن قبله يتحتم أن يواجه المجتمع نفسه ويفحص سلوكياته وسلبياته التي تحول دون مقاومة التحرش وعجزه عن إيقاف الجريمة فور وقوعها وقبل أن تكتمل فتلك هي الجريمة الكبري أن نسمح بوقوع التحرش وننتفض مطالبين بالقصاص دون أن نمنع وقوعه.
إن واقعنا المتردي والمنحل أخلاقيا بات يبرر التحرش بالتماس الأعذار تارة للمتحرشين وبالهجوم علي السيدات والفتيات تارة أخري واتهامهن بالتبرج والغواية...لكن ذلك تضليل مؤسف للحقيقة وتغييب فج لوعي هذا المجتمع وميراثه القيمي والأخلاقي,فقد عشنا أزمنة سابقة ودرسنا تاريخا أصيلا لهذا الشعب كانت المرأة والفتاة تحظي بكل الاحترام والإجلال ولا يتورع أحد أن ينتهك حرمتها واحترامها إلا ويجد المجتمع والقانون له بالمرصاد...
أما في زماننا الأغبر أصبح واقع المرأة والفتاة التي تخرج من بيتها كل يوم للعمل أو للدراسة يتحتم عليها أن تجابه غابة متوحشة من الحيوانات المنطلقة تتباهي برجولتها وفحولتها المزعومة بالتحرش بكل أنثي وانتهاك حرمتها وحقوقها كمواطنة مكتملة المواطنة...وفي ظل سكوت وقبول مشين لكل رجل وشاب!!!
بات علينا ضمن واقعنا المتردي أن نحصن سيداتنا وفتياتنا بأن مايصل إلي أسماعهن في الطريق العام,أو في وسائل المواصلات أو غيرها من الأماكن من ألفاظ خادشة للحياء أو إيحاءات لفظية أو حركية منحطة,لايجب أن يتعاملن معه إلا بالتجاهل التام وعدم الالتفات حتي لايقعن في مغبة الاشتباكات والمعارك غير محمودة العواقب مع كل سفيه أو منفلت...لكن ما بالنا وقد تطورت التجاوزات إلي استباحة الأعراض وانتهاك حرمات الإناث بالاعتداءات البدنية والهجوم الجسدي والتحرش الجنسي...كيف نطلب منهن تجاهل ذلك أو الصمت إزاءه إيثارا للسلامة؟!!...
لم بعد ذلك ممكنا فطبيعي أن السيدة أو الفتاة التي تتعرض لمثل هذا الفعل الشائن أن ترتعب وتصرخ هلعا وأن تستخدم كل مالديها من قوة لدرء الخطر عن نفسها وعن جسدها...لكن غير الطبيعي والمشين حقا أن تري تلك الضحية مسرح الجريمة وقد اكتظ بالرجال الذين وقفوا يتفرجون لايفعلون شيئا سوي بعض نظرات الاستنكار والشجب أو التدخل لفض الاشتباك بين الجاني والضحية بترك كل منهما يمضي في حال سبيله!!!...ويا للكارثة عندما تجد الضحية أن المحيطين بها يصمون آذانهم عن صرخاتها وبدلا من الفتك بالجاني أو تقديمه للعدالة يسمحون له أن يهرب بفعلته ليكررها كما يحلو له مزهوا بنفسه وبرجولته الملعونة!!
لماذا نعجب ونتصنع الفزع أمام ماحدث مؤخرا في ميدان التحرير والجريمة المخزية التي تعرضت لها فتياتنا؟...أليست هذه الجريمة ثمرة سكوتنا علي الانفلات الأخلاقي المتفشي في مجتمعنا وفي شوارعنا وفي وسائل مواصلاتنا؟...أليست تلك النتيجة الطبيعية لسكوتنا علي كافة أشكال التحرش العلني بالألفاظ والأيدي في سائر التجمعات في احتفالات أعيادنا؟...أليست هذه هي تبعة البطء والميوعة والرخاوة من جانب جهات التحقيق في إنزال القصاص وتوقيع العقوبة علي الجبناء والمجرمين الذين ينتهكون أعراض بناتنا في الطريق العام؟
إن مبادرة الرئيس السيسي بزيارة ضحية الاغتصاب الهمجي في ميدان التحرير وتقديري الاعتذار لها وتأكيد التزام جميع أجهزة الدولة بمحاربة تلك الجريمة لم تستوقفني حقا بالرغم من تقديم العميق لها...إنما ما استوقفني هو قوله إنه يستصرخ القيم والأخلاقيات والشهامة في كل رجل مصري للتصدي لهذه الجريمة ومنع حدوثها...فإذا كانت أجهزة الدولة تملك العدالة والقصاص بعد الجريمة يجب أن نعي أن العدالة والقصاص لايملكان إبراء الضحية من هول ماتعرضت له,بينما رجالات هذا المجتمع هم الذين يملكون أدوات منع الجريمة وإنقاذ الضحية...ورجالات هذا المجتمع هم الذين يجب أن يعوا أن التحرش الجنسي سبة في حق الوطن...ورجاله!!