علي سالم
حدثتك عن مكافأة زيادة الإيراد التي تصرف أسبوعيا للعناصر الأكثر جدا واجتهادا بين السائقين والكمسارية، فهل توجد حوافز أخرى لمكافأة السائقين الذين يتعاملون مع الوقود وقطع الغيار بدرجة أعلى من الحرص والمسؤولية؟.. آه.. أنت تتكلم عن عم السعيد السلاموني، سائق السيارة 38 أمنيبوس دمياط. كان هو السائق الوحيد الذي يحصل في كل عام على جائزة توفير الوقود وقطع الغيار.
العمل مع الأوسطى سعيد السلاموني كان متعة في حد ذاته، عملت معه لشهور على خط دمياط المطرية دقهلية، في اللحظة التي كان يشعر فيها أن عليه أن يتوقف أكثر من دقائق، كان يطفئ الموتور على الفور ويعيد تشغيله عندما ينتهي من تحميل الركاب. هذه الدقائق من توفير الوقود كانت تتراكم على مدى السنة لتكفل له الحصول على جائزة الوقود وقطع الغيار.
وعندما يكون موعدنا هو آخر سيارة قادمة من المطرية إلى دمياط، كان يقف في انتظاره عشرات البشر من الأمهات والآباء على الطريق الزراعي، وهم يحملون الفلوس والأطعمة التي يريدون إيصالها إلى أولادهم في دمياط. كان مشهدا جميلا عندما كنا نتوقف في الموقف في دمياط فيحيط بنا عشرات البشر ويخرج عليهم عم السعيد: واد يا عبده.. أمك باعتالك السمنة دي.. خد يا إبراهيم، ده ظرف فيه فلوس باعتها لك أبوك.
عملت مع عم السعيد لشهور كما عملت مع ابنه محمد في سينما اللبان في سنوات تالية، كان يعمل سائق أتوبيس نهارا وفي المساء كان هو المسؤول عن تشغيل ماكينة السينما. وإذا كنت قد ورثت عن عم الدسوقي عبد السلام تلك النصيحة التي لا تقدر بثمن، وهي أن أشعر بالغيرة على عملي، وهو ما يجعلني أجتهد فيه إلى أقصى حد أستطيع الوصول إليه، غير أني ورثت عن عم السعيد ليس أن تكون مسؤولا فقط
بل أن تكون مسؤولا بزيادة. تقاليد العمل تقضي بأن أطلق جرسا واحدا عندما أطلب من السائق التوقف، وجرسين عندما أطلب منه أن ينطلق. وهذا ما يحدث بالطبع عندما لا أجد أحدا واقفا في المحطة، أو ما اصطلح على تسميته بالمحطة وهي غالبا ما تكون شجرة قديمة. قال لي عند واحدة من هذه المحطات: يا علي.. قبل أن تعطيني الجرسين، طالبا مني أن أمشي، أريدك أن تلقي نظرة وراءك تمسح بها بعينيك كل هذه الحقول على اتساعها، من الجائز أن ترى شخصا جاء يجري من بعيد، هذا المسكين إذا فاتته هذه السيارة، فسيضطر للبقاء هنا ساعتين إلى أن تأتي السيارة الأخرى.
احرص على أن تلقي نظرة شاملة على هذه الحقول قبل أن تعطيني الأمر بمواصلة السير.
يا له من درس، ليس أداء الواجب فقط هو المطلوب، بل الرغبة في مساعدة الآخرين هي الهدف النهائي لكل أوامر الدنيا ونواهيها. لا تنظر فقط للمكان الذي سينتظرك فيه الراكب، بل ألقِ نظرة شاملة وراءك لعلك تنقذ شخصا أو جماعة. ترى هل كان عم السعيد يتمتع بدرجة عليا من الشفافية، دفعته لأن يعلمني حتمية أن نرى الأمور بشمولها واتساعها؟ يا لهم من تعساء، هؤلاء العاجزون عن إلقاء نظرة على الحقول
نقلآ عن الشرق الأوسط