لقد حدثتك من قبل في أكثر من مناسبة وأكثر من مكان، عن إنسان ما قبل التاريخ وعن الظروف التي نشأت فيها بدايات الحضارة. كانت البداية عندما اكتشف الإنسان «النظافة»، لقد بدأ يشعر بذلك الانتعاش والارتياح الذي يستمتع به الإنسان بعد أن يغتسل في مياه البحر أو النهر أو البحيرة. والاكتشاف الثاني كان «النظام» الذي تعلمه من حركة الكواكب والنجوم في السماء.. لا بد أنه اكتشف أن النظام عنصر حاسم في انتصاره على الوحوش وعلى أعدائه من بني البشر.
ثم نأتي إلى أهم عنصر في تكوين الإنسان المتحضر؛ وهو الإحساس بالجمال. هذه هي البداية كما تكلم عنها فرويد، غير أنه أضاف صفة أخرى تميز الإنسان المتحضر، وهى قدرة الآخرين على التنبؤ بـ«ردود فعله».. هكذا نستطيع الحكم على أي شخص مراوغ أو غامض بأنه غير متحضر، أي إنه مصدر لشر محتمل.
غير أن البشر ليسوا جميعا مهيئين للانضمام لركب الحضارة، لذلك يتخلف بعضهم عن السير في طريقها ويأخذون طرقا أخرى تقودهم إلى الفناء والعدم.
هكذا يمكن القول بثقة إن الحرب الدائرة في منطقتنا الآن هي حرب حضارية تدور بين الغالبية التي أخذت بأسباب وأساليب الحضارة، وأعلى أشكالها الدولة، وأقلية قررت منذ وقت طويل عدم قدرتها على الالتزام بما تفرضه الحضارة من قيود ضرورية لازمة لتقدم الجنس البشرى، وهو ذلك العجز الذي دفعها أخيرا إلى الانتحار في حرب نتيجتها معروفة مقدما وهى هزيمتهم وانتصار أصحاب الحضارة.
إن ما تفعله الجماعات المتطرفة في المنطقة العربية ليس أكثر من عملية انتحار استجابة للنشاط الزائد لغريزة الموت بداخلهم؛ تلك الغريزة التي تقوّتْ وتوحشت في أحضان الجهل والفهم الخاطئ لتعاليم الدين. غير أن أصحاب هذه الرغبة القوية في الموت يحرصون على تغطيتها بطبقة رقيقة للغاية من الشعارات الدينية لضم مزيد من التعساء الراغبين في الموت الفوري، وأيضا لإقناع أتباعها بأنهم يموتون ويقتلون الآخرين من أجل أهداف نبيلة.
غير أنه لا بد أن نعترف أن هذه الحرب لم تنشأ فجأة بين ليلة وضحاها، بل هي حرب يجري الإعداد لها منذ سنوات طويلة، هذا الإعداد الطويل لم يقم به أصحابه سرا، بل علنا وعلى رؤوس الأشهاد، والأشهاد هنا هم شاشات التلفزيون وصفحات الجرائد والمنابر والمدارس والجامعات.. سنوات طويلة من بث الكلمات والأفكار المقوية لغريزة الموت. ما أشهر جملة: «أعداؤنا أوغاد لأنهم يحبون الحياة، أما نحن فنحب الموت»، هكذا ظهر جيل جديد من الشباب؛ عدد كبير منهم يشعر باحتقار للحياة يجعل من السهل عليه فيما بعد الانضمام لزعماء يوفرون له سبل التخلص منها. عدد كبير من هؤلاء الدعاة؛ دعاة الموت والعدم، كانوا يحصلون على مرتباتهم ومكافآتهم من خزانة الدولة، وذلك تطبيقا لما يتصوره رجال السياسة من توازن بين قوى المجتمع المختلفة.
في مصر، وفى أماكن أخرى، كان يحدث، بدعوى الحفاظ على التوازن، أن يضع رجل السياسة، العقارب مع الطيور في قفص واحد، أو في جريدة واحدة، أو على شاشة واحدة، والنتيجة معروفة سلفا.
ali.salemplaywright@yahoo.com
نقلا عن الشرق الاةسط