بقلم يوسف سيدهم
دخلت مأساة غزة وأهلها الفلسطينيين منعطفا خطيرا بتطوير إسرائيل عمليات القصف الجوي إلي عمليات الاجتياح البري للقطاع,الأمر الذي وضع المدنيين الأبرياء العزل في مرمي النيران وجعل من مدن وأنحاء القطاع ميادين لمعارك حربية شرسة تدور وسط الكثافات السكانية العالية والعمران...مئات الآلاف من أهل غزة باتوا في حالة نزوح هستيري بعيدا عن مرمي النيران محاولين النجاة بأنفسهم وأسرهم وأطفالهم من هول المعارك التي اندلعت حولهم بينما هم لا ناقة لهم فيها ولا جمل!!
ساذج من يتصور أن مايجري في قطاع غزة منذ استيلاء حماس عليها وانفصالها عن السلطة الفلسطينية هو حرب تحرير للأراضي الفلسطينية من الاحتلال الإسرائيلي,وإلا كنا شاهدنا أهل غزة جميعا مستنفرين للمعارك وشبابها كلهم مجندين في جيش التحرير-وذلك في حد ذاته أمر مرعب لإسرائيل كانت ستعمل له ألف حساب-لكن الحقيقة الحزينة أنه منذ استيلاء حماس علي غزة وحكم أهلها حكما دكتاتوريا استبداديا بالحديد والنار وإصرارها علي الانفصال عن الوحدة الفلسطينية ورفضها إتمام أي مصالحة سياسية لتوحيد الصف الفلسطيني بات واضحا للكافة أن هناك أهدافا خفية لحماس بعيدة عن تحرير الأرض
وتلك الأهداف تستلزم مقاومة أية جهود سياسية نحو المفاوضات وعرقلة أية محاولات للمصالحة والوحدة الفلسطينية والإبقاء علي حالة شكلية كلامية للحرب والصراع المسلح من أجل ضمان عدم نضوب موارد التمويل التي تقف وراء واقع اللاسلم واللاحرب علاوة علي ضمان إسكات-بل قمع-أية أصوات داخل غزة تطالب بالديمقراطية وتدوير السلطة.
تحولت حماس من منظمة تناوئ إسرائيل من أجل تحرير الأراضي الفلسطينية المحتلة إلي جلاد لأهل غزة يدير عصابات مسلحة ويمارس عليهم القهر والقمع والاستبداد والإرهاب كما ارتضت أن تكون مخلب قط للدول الراعية للإرهاب والمنظمات التي تعمل علي تعويق حل القضية الفلسطينية وامتداد ذلك نحو تدمير وتفتيت الدول المجاورة حتي لا تقوم لها قائمة بعد لعنةالربيع العربي التي ألمت بها...
والعجيب أن هذا المشهد برمته يصب في صالح إسرائيل نفسها التي لاترغب في حل القضية الفلسطينية وتفضل كسب الوقت لأطول فترة ممكنة لتثبت سيطرتها علي أجزاء متزايدة من الأرض قبل الجلوس إلي مائدة المفاوضات,لذلك ترفض إسرائيل تماما تجزئة المفاوضات والاتفاق نهائيا مع السلطة الفلسطينية في الضفة بمعزل عن قطاع غزة وتتذرع بأنها لن تجلس لتتفاوض إلا مع سلطة موحدة تمثل الفلسطينيين جميعا...وهي تعلم تمام العلم أن ذلك لن يحدث طالما توجد حماس جاثمة علي صدور أهل غزة ومناوئة لأي اتفاق فلسطيني فلسطيني.
ولا مانع أبدا لدي إسرائيل أنه وسط الإبقاء علي ذلك الوضع المأساوي وحصار أهل غزة وإذلالهم وتعليق حل القضية الفلسطينية أن تراهن علي تحقيق مكاسب سياسية وعسكرية من جراء حماقات حماس المتكررة,فالسيناريو الذي نحن بصدده منذ ثلاثة أسابيع والذي انطلقت شرارته الأولي منذ نحو شهرين بخطف حماس لثلاثة شبان إسرائيليين وقتلهم,هو سيناريو متكرر تلجأ إليه حماس كلما أرادت تحفيز مصادر تمويلها من جانب وإخماد بركان الثورة الشعبية الداخلية من جانب آخر,فترتفع وتيرة الصراعات والتهديدات المتبادلة بينها وبين إسرائيل وتنزلق نحو إطلاق صواريخها-التي لا تتجاوز الألعاب النارية-علي إسرائيل,
فتكون النتيجة المعروفة سلفا انطلاق إسرائيل في توجيه سلسلة رهيبة من الضربات الانتقامية التأديبية ضد كل مراكز القوة السياسية والعسكرية لحماس,ولأن حماس تزرع تلك المراكز وسط التجمعات الشعبية والعمرانية معتقدة أن ذلك سيحميها من الضربات -أي أنها تستخدم شعبها من الفلسطينيين العزل كدروع بشرية لحماية ميليشياتها ومنصاب إطلاق صواريخها-فتكون النتيجة الكئيبة أن يسقط المئات من الضحايا وآلاف المصابين تحت وطأة القصف وشدة الضربات.
ووسط كل تلك الأهوال والدماء والدمار تجيئنا أصوات قادة حماس تكرر التهديد والوعيد بعقاب إسرائيل وتلقينها درسا لن تنساه بشكل يدعو للرثاء والسخرية علي طريقةشيلوه من فوقي لأموته!!...
لكن الكارثة الحقيقية أن هذه الأصوات لا تأتي من غزة,إنما من الدوحة حيث لا يستحي قادة حماس أن يعيشوا في بذخ وفي أمان ويكتفوا بإدارة المعارك عن طريق الميكروفونات وأبواق الإعلام ويتركوا الشعب الفلسطيني المغلوب علي أمره يقتل ويتشرد ويدفع ثمن حماقاتهم!!
إلي متي يستمر هذا الوضع المسكوت عليه في غزة؟...إلي متي تترك حماس لتعيث فسادا في القطاع وشعبه؟...ألا تدري حماس وقادتها أنه إذا كانت لديهم ذرة باقية من حب لفلسطين أو الغيرة علي تحريرها من الاحتلال أو الإصرار علي إقامة دولتها وإنقاذ شعبها وانتشاله من عذاب تجاوز ستة عقود,أن الحل السحري لتحقيق كل ذلك يكمن في رحيلهم عن غزة وترك مقدرات شعبها في يده ليتوحد مع السلطة الفلسطينية في الضفة وصولا إلي مائدة المفاوضات لإحراج إسرائيل وإجبارها علي توقيع اتفاق السلام وتأسيس الدولة الفلسطينية الحديثة...
وأثق أن هذا لو حدث وتكلل بالنجاح لن تقوم الدولة الوليدة علي أنقاض أو دمار مغامرات وحماقات حماس في غزة ولن يترك العالم الشعب الفلسطيني ليدفع الفاتورة وحده,بل كما حدث في أوربا بعد الحرب العالمية الثانية,حتما ستتكاتف دول كثيرة في العالم-وعلي رأسها الدول العربية نفسها-وراء مشروعمارشال آخر لإعادة إعمار وتعمير وتحديث غزة...فقط الأمر مرهون بالخلاص من حماس...فهل يفعلها قادة حماس طوعا من تلقاء أنفسهم؟...أم يعيد التاريخ تكرار مصير كل طاغية مستبد فيهم؟!!