الخميس ٣١ يوليو ٢٠١٤ -
٣٢:
٠٦ م +02:00 EET
بقلم : د. أحمد الخميسي
يحل العيد بفرحة تنطوى على معان كثيرة مبهجة. لكن الشعور بتلك السعادة الغامرة القديمة ليس سهلا حين نوغل في العمر ونكون قد فارقنا في زمن بعيد زهرة الطفولة الملونة بالبراءة. حينذاك كنا نثق في كل شيء، نصدق الأساطير، ونعتقد أن القمر يسبح في بركة السماء المعتمة فقط لنشعر بحب البنات على نوره، وأنه قد ينطفى إذا انطفأ الحب في قلوبنا. لم يكن ثمت شيء مستحيل ولا ثمت سقف للأحلام، ولا حدود لثقتنا في العالم والناس. كان الكون كله لنا، تفاحة، نشبع منها، نرفعها شمسا، نشقها نهرا، نشكلها في الصورة التي نريد، نضعها في جيوبنا ونتجول بها في الشوارع بزهو ومرح سعداء. في الثانية عشرة من عمري كنت قد كتبت أعلى كل أبواب شقتنا عبارة جوركي الشهيرة " جئت إلي هذا العالم لكي أختلف معه". كانت لدي ثقة أن باستطاعتي تغيير العالم، ولم أكن أعرف أن فهم العالم مهمة أكثر مشقة من الاختلاف معه! حينذاك كنت أشعر بفرحة العيدية التي أتلقاها من عمتي فتحية، وكانت تنفح كل ولد وكل بنت منا جنيها مصريا كاملا ذلك عام 1960 وكان الجنيه أيامها ثروة! نجتمع ونذهب في المساء إلي سينما ستار الصيفي المجاورة. كان عددنا كبيرا نحو عشرة أولاد أو أكثر. نتقدم إلي مدخل السينما في طابور كأنه إعلان عن انتصار عسكري. نقف عند الشباك ونشترى التذكرة بثلاثة قروش.
يفسحون لنا الطريق إلي الصالة. ندخل ونشغل صفا كاملا تقريبا أمام الشاشة. وكان العاملون في السينما يعرفوننا فكانوا يغضون النظر عن ممنوعات كثيرة في مقدمتها أرغفة الخبز وحلة الملوخية التي كنا نأخذها معنا من دون أن نحرص حتى على مدارتها. نضع الحلة أمامنا على الأرض، ويبدأ الفيلم، ونشرع نحن في الأكل بأفواه شرهة وأعين مدهوشة من أحداث الفيلم وما يقوم به الشجيع. ذات ليلة اقترب منا أحد العاملين وسألنا وهو محرج" مش ممكن تجيبوا معاكم سندويتشات بدل الملوخية دي؟!". فأجابته أصغر أخواتي بحزم وكبرياء بنات الذوات " لاء .
إحنا متعودين على الملوخية"! في سن الرابعة عشرة وقعت أنا وأخي الأكبر في غرام أختين جميلتين من أسرة تسكن الشارع المجاور. فكنا نهبط معا بعد منتصف الليل والدنيا هدوء نسير إلي أن نقف أسفل عمارة الأختين. نتطلع إلي الطابق الثالث ويصيح أخي بعلو صوته بثقة" العالم يسمعنا الآن"! فتطل علينا الجميلتان من الشرفة ! فنضرب الأرض بأقدامنا ونرفع رأسينا بفخر سعيدين لأن العالم يسمعنا كلما شئنا ذلك. ثم كبرنا، وشيئا فشيئا التهمت الشكوك والحذر والتساؤلات تلك الزهرة الملونة بالثقة والبراءة ولم يعد يفوح في الروح عطر الثقة في القدرة على صنع المستحيل. أصبحنا نعلم أن القمر سيواصل سباحته كل ليلة في بركة السماء المعتمة سواء أكنا نعشق أو لا نعشق. شيئا فشيئا تعلمنا أن العالم لا يسمعنا، والأكثر مرارة أننا عرفنا أن العالم حتى حينذاك ونحن صغار لم يكن ينصت إلينا. وحينما تبددت الطفولة من بين أيادينا أمسى من الصعوبة بمكان أن نشعر بتلك السعادة التي كانت تلهب نفوسنا بنار العشق والأحلام والفروسية. لا أحد يسمعنا ولم يكن أحد يسمعنا من قبل ونحن نخبط الأرض بأقدامنا تحت شرفة الجميلتين. مع ذلك لابد أن نثق إلي أقصى درجة، إلي مالا نهاية، أن العالم لا يفعل شيئا سوى الانصات إلي أصواتنا وهي تشق الليل إلي الفضاء! بهذا الإيمان فقط سوف نستعيد نظرة الثقة والبراءة ونقول لبعضنا البعض من صميم القلب" عيد سعيد"!
***
أحمد الخميسي . كاتب مصري