كمال غبريال
لن تأتي هذه السطور بتفاؤل أو تشاؤم، فأداتنا هي العقل وليس العاطفة. رسالتنا البحث عن أصول الداء والأمراض الثقافية والاجتماعية وتوصيفها، وهنا قد يبدو ما نستعرض للبعض متشائماً. وحين نستطلع المستقبل واحتمالاته، فنرصد منافذ لنا من حالتنا المتصحرة الراهنة، يتصور البعض أننا قد انتقلنا إلى التفاؤل. بالعقل والصدق مع النفس وحده تتقدم الأمم، وبخداع الذات والهروب إلى عظمة متوهمة وآمال خادعة تتخلف الشعوب. أتمنى أن نضع أيدينا دوماً على مفاتيح، تكون سبباً في تزايد الأسئلة، وتراجع الإجابات. تؤدي لتعاظم الشكوك، واهتزاز اليقين. تبث الحيرة والقلق، وتبدد الاطمئنان!!
• أرصد أحياناً ما يأخذ أفكاري بعيداً. فأتصور الأمر سيؤول في النهاية إلى داعش أو تنظيم القاعدة وما يمثله. يكتسح هؤلاء العالم، ويعيدون البشرية إلى بداياتها الوحشية الأولى. لم أقتنع يوماً بنظرية "قيام وسقوط الحضارات"، كوصف لازم وحتمي لمسار التاريخ الإنساني. لكنني أرصد أن الحضارة الإنسانية الراهنة، بها من الثغرات العضوية، ما يكفي لأن يتمكن تيار الإسلام السياسي من اختراقها والقضاء عليها. لقد وصلت الشعوب المسماة بالغربية، إلى درجة من التحضر والإنسانية، بحيث صارت كما لو كائن يفتقد لصدفة أو قشرة أو جلد، يحميه من الفيروسات التي تهاجمه، مستغلة طبيعته المتحضرة المنفتحة. إذا ظل معدل المواليد للشعوب المنتجة للإرهابيين على ما هو عليه الآن، وكذا معدل المواليد للشعوب منتجة الحضارة. وظلت ذات حالة سهولة حركة الأفراد بين سائر أنحاء العالم. وظل ذلك الجهل والتغافل من العالم المتحضر، عن طبيعة الأخطار المحدقة، فإن النهاية المأساوية للحضارة المعاصرة، لن تكون مجرد أضغاث أحلام.
بالطبع شعوب منطقة الشرق الأوسط مظلومة بما يستوطن فيها من أفكار وأيديولوجيات، أشبه بالفيروسات الفتاكة. لكن يصعب تبرئتها تماماً. إذ مقابل استعدادها الذي يبدو فطرياً للتوافق واعتناق الأسوأ، نجد عزوفاً وعجزاً عن استيعاب الحديث والأفضل، والذي تظاهره نتائج باهرة، على واقع الحياة. ستبقى تؤرقني، إشكالية توزيع المسئولية بين الأيديولوجيا ومعتنقها. لعل أشهر الأكاذيب المريحة، الادعاء بأن التيارات الإسلامية تحقق شعبيتها بين الطبقات الفقيرة، عن طريق المعونات المالية والعينية. الحقيقة التي علينا مواجهتها، هو أن هذه التيارات تخاطب في الجماهير ما هو مزروع بداخلها، وينتظر مجرد الرعاية والتنشيط. داعش نائمة في القلوب، اللعنة على من يوقظها. ربما جاز القول أن الحلول الوسطية قد فشلت، وأن على شعوب الشرق الآن أن تحسم خيارها، مابين دولة داعش، والدولة العلمانية الحديثة.
إن أزمة المنطقة ليست في حجم خلافاتها في وجهات النظر أو في اختلافات مصالحها مع جيرانها أو مع العالم، فهذه وتلك يمكن أن يجد لها العقل والحوار حلولاً كلية أو جزئية، مرضية تماماً أو يمكن قبولها أو حتى يمكن تحملها، لكن الأزمة الحقيقية هي أن شعوب المنطقة بحاجة إعادة تأهيل سيكولوجي وثقافي، لابد وأن يسبقه وقف خطاب العنف والتحريض والكراهية، بكل ألوانه وتصنيفاته، لكن هل يمكن أن يحدث هذا، وقد نشبت نيران الكراهية في الشجر والحجر؟!!
لدى الشعوب الحرة والذكية، تتراكم الخبرات والمعارف جيلاً بعد جيل، لتصعد هذه الشعوب جبل الحضارة. ولدى شعوب أخرى يتعفن التراث الذي تتوارثه الأجيال، لتصاب بالتسمم المعرفي، فتسقط إلى هاوية التخلف. الأمم الناهضة منشغلة بقضايا المستقبل وإشكالياته. فيما الأمم الفاشلة منهمكة ما بين قضايا الماضي، وبين كيفية تطويع التراث البائد، ليصلح للتحكم والسيطرة على عالم متغير، أو كيف يسمح بمرور نور الحضارة من ثقوبه السوداء. أبداً لن تنهض مصر، وهي تتمرغ في أوحال ذات الأفكار والتوجهات، التي أوصلتها لما هي فيه من تخلف وتصدع وانهيار. لقد تصدعت أغلب مناحي حياتنا، خلال الثلاث سنوات الماضية، بالطبع علاوة على ما كان بها من الأصل من تصدعات وشروخ وعجز وقصور. الآن لا أرى في الجماهير وعياً ولو عاماً، لكيفية إعادة بناء حياتنا على أسس جديدة. أما عن النخبة، فواضح تعلقها حد الإيمان، بكل ما من شأنه دفع هذه الأمة باتجاه الفناء التام والخراب الشامل. في حين أن الحكام ومن بيدهم مقاليد الأمور، أشبه ببقايا أخشاب تتقاذفها الأمواج، وتقنع من الغنيمة بالبقاء طافية، على سطح مياه تتعفن وتضطرم.
• "الثورة" عندي كلمة ومعنى مقدس. الثورة تعني التغيير، وسنة الكون التغير المستمر. تعني رفض القديم البائد، والتقدم لما هو أحدث وأفضل للإنسان والإنسانية، كما أن للثورة والتغيير ثمناً، علينا أن نكون مستعدين لدفعه. لكن عندما يهتف أحدهم بالثورة، علينا أن نستفهم منه، على من وماذا ومن أجل ماذا سيثور بالتحديد. علينا أن نتأكد أن هذا الثائر وثورته، سوف تدفعنا ولو بعد حين إلى الأمام، وفق معايير الحضارة المعاصرة. ونتأكد أيضاً أنها ليست ثورة تسقطنا من عربة الزمن المعاصر إلى هاوية الماضي، أو تتركنا في خواء وسط ما تحطم من مقومات حياتنا.
• ما أنشده في فكر رئيس جمهوريتنا، ليس مشاريع وخططاً تفصيلية لحل مشاكل مصر. فقط كنت أتمنى أن أرصد قدرته على التفكير بمنهج علمي سليم، ورؤية بانورامية صحيحة وواضحة للظروف المصرية والعالمية، وفلسفة حكم وسياسة وإدارة تتوافق معها. التوحيد بين شخص الحاكم وبين القيم والمفاهيم المطلقة مثل الوطن والعدالة، هو البوابة نحو الديكتاتورية. في أغلب الأحيان لا يلجأ الحاكم إلى المنهج الاستبدادي في الحكم، لمجرد أنه يهوى أو يجيد هذا النمط من السيطرة. فغالباً ما يتلمس الحاكم في أرض الواقع وظروفه، أفضل الطرق التي تمكنه من البقاء على كرسيه. هي إذن طبيعة الشعب وعلاقاته الاجتماعية والاقتصادية وثقافته وقيمه، ما يدفع الحاكم في الاتجاه الذي يحقق له التوافق، وركوب أمواج البحر الذي يسبح فيه. . نحن يا سادة من سنحدد للحاكم كيف يحكمنا!!
في ظل السياسة الاقتصادية التي أشار إليها السيسي، والتي يتبدى فيه ميله لسيطرة الدولة والمؤسسة العسكرية، يبدو توفير الاستثمارات اللازمة عن طريق ما يمكن تسميته "التسول"، هو البديل المتصور للتأميمات الناصرية. هنا نكون أمام سؤالين، أولهما إن كان "التسول" قادر على توفير حجم الاستثمارات المستهدفة، والثاني واضحة إجابته، وهو إمكانية تنفيذ ما يطرح الآن من مشروعات خيالية ولاعقلانية، والجدوى الاقتصادية التي يمكن أن تتحق من تنفيذها، والتي ستكون أقرب لجريمتي توشكي وفوسفات أبو طرطور. يبدو أنه مقدر على أمثالي أن نظل نصرخ في واد يتبدد فيه الصدى. صرخنا مما يجلبه مشروع توشكي من خراب. واليوم نصرخ مما سيجلبه مشروع استصلاح مليون أو 4 مليون فدان. يحدث هذا حين يحكم الجهل المدينة!!. . إن لم نشرع فوراً في برنامج جاد وسريع لخصخصة جميع المصانع، بل ومرافق الدولة، فإن أي حديث عن إصلاح اقتصادي أو تطوير هو مجرد تهريج وخداع للذات وضحك على الذقون. سؤال يدور برأسي، إن كان ضمن بلاط السيسي علماء اقتصاد حقيقيين، ولماذا يصمتون، ويقبلون ما يحدث الآن من تهريج؟!!
• الشعب المصري أمانة في أعناق وأحضان وأيدي من يتداولونه بينهم. يسلمه دجال إلى دجال بديل. ويتخلى عنه أفاق، إلى أفاق آخر ينتظر دوره. والشعب جميل ويصدق كل ما يقال له، سواء اتجه الدجل شرقاً أم غرباً، شمالاً أم جنوباً. يصدق أن مبارك كان عميلاً أمريكياً، ويصدق أيضاً أن 25 يناير صناعة أمريكية إسرائيلية. يصدق أن حبيب العادلي ارتكب مذبحة كنيسة القديسين، ويعود فيصدق أن الإخوان هم من ارتكبوها. يصدق أن "الفلول" الذين في السجون هم من دبروا مذبحة ستاد بورسعيد، ليعود لينسبها للإخوان المسلمين. يصدق أن انقطاعات الكهرباء وسائر المصائب من صنع "الفلول"، ليعود الآن ويتشكك في خلايا الإخوان النائمة. هو الشعب الطيب الجميل، الذي يحتاج دوماً لحقن إكسير الخداع والتضليل، لتذهب به بعيداً في عوالم أخرى، غير عالمنا الأرضي المقفر الكئيب. لاحظت تفشي روح مكارثية، تستهدف استئصال الإخوان المسلمين من مؤسسات الدولة. ما أعرفه هو مراقبة سلوك منتسبي الإخوان، ومن يقترف جريمة يعاقب عليها القانون، أو يتلون أداؤه لعمله بالأيديولوجية الإخوانية، فهؤلاء فقط من يعزلون، أما غير هؤلاء فهم مصريون، لهم ذات الحقوق التي للجميع.
• نقطة البداية الآن لتعود مصر وتقف على قدميها، أن نتفق على احترام الدولة والقانون، فبدون هذا لن يتحقق أمن ولا تنمية. إذا كان هناك من يهمهم حقاً استمرارية الثورة، فلتكن هي استمرارية جدل الأفكار الخلاقة، وليس استمرارية التظاهرات المنفلتة والإضرابات, لقد أنفقنا ثلاث سنوات ونصف في "إرادة الثورة"، وأياً كان حجم ونوعية ما تحقق، فلابد لنا الآن أن نبدأ مرحلة "إرادة البناء". من حق البعض ألا يروق له هذا الكلام، وأن يصر على استمرارية ما يسميه ثورة، لكن أيضاً من حق الدولة والمجتمع، أن يصنف هؤلاء كخارجين عن القانون وعدميين. وهكذا قد يبدأ صراعاً مجتمعياً مدمراً، يقضي على ما تبقى من مقومات حياة شعب بائس.
kghobrial@yahoo.com
نقلآ عن إيلاف