بقلم - فاروق عطية
فى السنة الدراسية 1951/1952 كنت فى السنة الأولى بالمرحلة الثانوية ( خمس سنوات ). وبعد أداء إمتحانات آخر السنة التى كانت تعقد فى أواخر يونيو وتظهر نتيجتها خلال شهر يوليو, ونحن فى انتظار النتيجة فوجئنا في ليلة لن ينساها تاريخ مصر والمنطقة, وقع في القاهرة حدث غير تاريخها جذرياً ومازلنا نشهد آثاره حتى اليوم، إنها ليلة 23 يوليو حينما خرج الجيش من ثكناته معلنا عن حركته المباركة
وتصدرت صورة اللواء محمد نجيب الصفحة الأولي لجريدة "المصري" وفوقها مانشيت: اللواء نجيب يقوم بحركة تطهيرية في الجيش. كانت الحركة مفاجأة لنا ولم نكن نتوقعها, بالرغم من ظاهرة عدم استقرار الحكم وتتابع تغيير الوزارات يوما بعد يوم ولكن لم يكن يخطر ببالنا أن يحدث إنقلاب عسكرى ضد الملك.
وبعد انضمام الأريب على ماهر باشا العدو اللدود لحزب الوفد وزعيمه مصطفى النحاس باشا إلى جانب العسكر, ولتقاعس الأحزاب ولسرعة تأييد الجماهير للحركة بدأت تتغيرتطلعات قادة الحركة وظهر جليا أطماعهم فى تولى السلطة, وتتابعت الأحداث بتنازل جلالة الملك عن الحكم لإبنه أحمد فؤاد, ثم إلغاء الملكية وإعلان الجمهورية.
فى البداية لم نكن نعلم شيئا عن القائد الحقيقى للحركة أو القيادات الرئيسية بها, ولكن الشخص الوحيد الذى كان واضحا فى الصورة وقتها هو ذلك الإنسان الطيب اللواء محمد نجيب الذى حمل رأسه على كفه ليلة قيام الحركة بهذا الانقلاب ولو كان قدر لها الفشل لكان هو الوحيد الذى سيتحمل وذرها دون الآخرين. أختير للقيادة كونه واجهة مشرفة للحركة لأنه كان برتبة لواء, ومعروف عنه أنه بشوش وسيم الوجه وقور ومثقف.
ولد محمد نجيب بالسودان بساقية أبو العلا بالخرطوم, لأب مصري وأم سودانية المنشأ مصرية الأصل اسمها "زهرة احمد عثمان", وإسمه بالكامل محمد نجيب يوسف قطب القشلان, وهو من مواليد 19 فبراير 1901 (تسنين). تلقى تعليمه بمدينة ود مدني عام 1905 حيث حفظ القرآن الكريم وتعلم مبادئ القراءة والكتابة، انتقل والده إلى وادي حلفا عام 1908 فالتحق بالمدرسة الابتدائية هناك، ثم التحق بكلية جوردون عام 1913. توفي والده، تاركا وراءه أسرة مكونة من عشرة أفراد، فأحس بالمسؤولية مبكرا، ولم يكن أمامه إلا الاجتهاد في كلية جوردن حتي يتخرج سريعا. بعد أن تخرج من الكلية التحق بمعهد الأبحاث الاستوائية لكي يتدرب علي الآلة الكاتبة تمهيدا للعمل كمترجم براتب ثلاثة جنيهات شهريا، وبعد التخرج لم يقتنع بما حققه وأصر علي دخول الكلية الحربية في القاهرة.
التحق بالكلية الحربية في مصر في أبريل عام 1917 وتخرج فيها في 23 يناير 1918، ثم سافر إلى السودان في 19 فبراير 1918 وفى نفس سن والده والتحق بذات الكتيبة المصرية التي كان يعمل بها والده ليبدأ حياته كضابط في الجيش المصري بالكتيبة 17 مشاة. ومع قيام ثورة 1919 أصر علي المشاركة فيها علي الرغم من مخالفة ذلك لقواعد الجيش، فسافر إلي القاهرة وجلس علي سلالم بيت الأمة حاملا علم مصر وبجواره مجموعة من الضباط الصغار. ثم انتقل إلى سلاح الفرسان في شندي. ولما ألغيت الكتيبة التي كان يخدم بها، انتقل إلى فرقة العربة الغربية بالقاهرة عام 1921.
ودخل مدرسة البوليس لمدة شهرين، واحتك بمختلف فئات الشعب المصري، وتخرج وخدم في أقسام عابدين، مصر القديمة، بولاق، حلوان. عاد مرة أخرى إلى السودان عام 1922 مع الفرقة 13 السودانية وخدم في واو وفي بحر الغزال، ثم انتقل إلى وحدة مدافع الماكينة في ملكال. انتقل بعد ذلك إلى الحرس الملكي بالقاهرة في 28 أبريل 1923، ثم انتقل إلى الفرقة الثامنة بالمعادي بسبب تأييده للمناضلين السودانيين، حصل على شهادة الباكلوريا عام 1923، والتحق بكلية الحقوق، ورقي إلى رتبة ملازم أول عام 1924، وكان يجيد اللغات الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية وذكر في مذكراته انه تعلم العبرية ايضاً. في عام 1927 كان محمد نجيب أول ضابط في الجيش المصري يحصل على ليسانس الحقوق، ودبلوم الدراسات العليا في الاقتصاد السياسي عام 1929 ودبلوم آخر في الدراسات العليا في القانون الخاص عام 1931 وبدأ في إعداد رسالة الدكتوراه ولكن طبيعة عمله العسكري وكثرة تنقلاته حالا دون إتمامها.[
وفي عام 1929 تعلم محمد نجيب درسا من مصطفى النحاس باشا، فقد أصدر الملك فؤاد قراره بحل البرلمان لأن أغلبية أعضائه كانوا من حزب الوفد الذي كان دائم الاصطدام بالملك فتخفى في ملابس خادم نوبي، وقفز فوق سطح منزل مصطفى النحاس، وعرض عليه تدخل الجيش لإجبار الملك على احترام رأي الشعب، لكن النحاس قال له: أنأ أفضل أن يكون الجيش بعيدا عن السياسة، وأن تكون الأمة هي مصدر السلطات، كان درسا هاما تعلم من خلاله الكثير حول ضرورة فصل السلطات واحترام الحياة النيابية الديمقراطية، وهو الدرس الذي أراد تطبيقه بعد ذلك عام 1954
تدرج بالجيش المصرى حتى رتبة لواء فى 9 ديسمبر 1950.
انتخب رئيسا لنادى الضباط فى ديسمبر 1951 ولكن الملك لم يعتمد النتيجة وأصر على وضع أحد أعوانه بدلا منه (حسين سرى عامر باشا) مما عجل بقيام الحركة. وكانت احتمالات فشل الحركة مرجحة لولا الدور الذى لعبته السفارة الأمريكية فى تحييد الجانب الإنجليزى المنحاز إلى الملك، فما كان أيسر قيام عدة طائرات بريطانية من قاعدة قنال السويس لإنهاء التمرد. يقول السادات فى مذكراته عن علاقة الحركة بالأمريكان الأتى: فى فجر 23 يوليو فكرنا فى الاتصال بالأمريكان لنعطيهم فكرة عن أهدافنا، وكنا نريد من ذلك الاتصال تحييد الإنجليز. ولم نكن نعرف أحدا فى السفارة الأمريكية ، وهدانا البحث إلى على صيرى الضابط المسئول عن مخابرات الطيران وكان صديقا للملحق الجوى الأمريكى "إيفانز" وأبلغ رسالتنا إليه والذى نقلها إلى جيفرسون كافرى السفير الأمريكى الذى اعتبرها لفتة طيبة من جانب الحركة.
كان اختيار تنظيم الضباط الأحرار لمحمد نجيب سر نجاح التنظيم داخل الجيش, فكان ضباط التنظيم حينما يعرضون علي باقي ضباط الجيش الانضمام إلي التنظيم كانوا يسألون من القائد، وعندما يعرفوا أنه اللواء محمد نجيب يسارعون بالانضمام.
إذ أن باقي الضباط الأحرار كانوا ذو رتب صغيرة وغير معروفين. وفي ليلة 23 يوليو لعب محمد نجيب أخطر دور في نجاح الحركة, فقد انكشف سر الثورة الساعة 9:30 مساءا، وعرف أن مؤتمراً لرئيس الأركان الفريق حسين فريد سيعقد في الساعة العاشرة في مقر القيادة لترتيب القبض علي الضباط الأحرار، فقام علي الفور بإبلاغ يوسف صديق بالتحرك قبل ساعة الصفر بساعة، وبالفعل تحرك يوسف صديق ونجح في اقتحام مركز القيادة والقبض على من فيه من قادة, ولولا هذا التحرك لفشلت الحركة ولقضي عليها قبل أن تبدأ.
ظللنا لمدة طويلة نحسب أن نجيب هو الرأس المخطط للحركة, وأخيرا علمنا أن عبد الناصر هو القائد الحقيقى لها, ولكنه كان يخشى الظهور منذ البداية بحجة أن له أطفال صغار فى حاجة للرعاية سوف يقاسون عند الفشل, وبالقطع الفشل سيؤدى لمحاكمته عسكريا وإعدامه. وتوجه السادات إلى السينما ليلة 23 يوليو وافتعل معركة مع أحد رواد السينما وأصر على عمل محضر فى قسم البوليس ليكون دليل ابتعاده عند الفشل. أما نجيب الذى تنكر له الجميع فقد كان شجاعا لم يرهبه الموقف وكان مستعدا لتحمل كل العواقب بمفرده. وبعد نجاح الحركة بدأ ظهور الآخرين، وتولى عبد الناصر رياسة الوزارة وأراد لنجيب أن يكون رئيسا شرفيا للجمهورية ليس إلا.
وفى مارس 1954 نشب الخلاف الحاد بينهما، خلاف على السلطة بين رجل يريد أن يمارس الرياسة ويصر على الديموقراطية وإعادة الأحزاب, متذكرا للدرس الذى تلقاه من الزعيم مصطفى النحاس, أما الرجل الآخر "عبد الناصر" ويرى فى نفسه أنه المؤسس الحقيقى للحركة ويريدها ديكتاتورية عسكرية. وانتهى دور محمد نجيب ولقى ما لقى من عذاب هو وأسرته. اعتقل وحددت إقامته فى قصر زينب الوكبل بالمرج. ورغم سوء معاملته ظل وفيا ومجاملا، يرسل برقيات التهنئة إلى عبد الناصر فى كل المناسبات القومية والشخصية. حتى صلاح سالم الذى تخصص فى التشهير به فى كل المناسبات, ذهب نجيب لزيارته أثناء مرضه وعندما توفاه الله ذهب ليعزى أخيه جمال الذى فوجئ بحضوره فقال مندهشا: جئت تعزينى فى صلاح بعد كل ما فعلناه بك؟ فرد عليه باسما بوقار: الواجب واجب يا جمال.
فى يوم الخميس أول نوفمبر 1957 بعد العدوان الثلاثى بأيام، بعد أن تردد أن الإنجليز بعد الانتهاء من عبد الناصر ينون إعادة نجيب إلى السلطة. فى حوالى الواحدة صباحا حضر إليه المقدم الشناوى وأخبره أنه يريد إبعاده من هذا المكان القريب من المطار إلى منطقة الهرم ليكون فى مأمن من الغارات, خرج لا يحمل معه إلا حقيبة تحتوى بعض الغيارات والمصحف وبعض الكتب والمسبحة وسجادة الصلاة. لم تتجه السيارة للهرم بل اقتادوه إلى قطار الصعيد فى عربة خاصة
وفى الفجر وصلوا نجع حمادى وأودعوه استراحة الرى, وبد 48 ساعة اقتاده إثنان من ضباط البوليس الحربى إلى مكان آخر, ولما سأل عن المكان كان الجواب ركلا وبصقا وإهانة..!! بعد أيام نقل إلى منزل محامى بمدينة طما وبقى فى غرفة رطبة لمدة 51 يوما تحت حراسة مشددة، ثم أعادوه مرة أخرى إلى المرج حيث ظل حبيسا بهذا المنزل حتى وفاته فى 28 أغسطس 1984.
تذكرت أول لقاء لى بهذا الرجل العظيم بعد قيام حركة الجيش المباركة بشهور، كنت طالبا بالسنة الثانية الثانوية, وكنت أحد أفراد الحرس الوطنى بالمدرسة، أُنيط بنا عمل كوردون على رصيف محطة طهطا لمنع تكأكؤ الجماهير على قطار الرحمة الذى يقل رجال الحركة وعلى رأسهم نجيب. وعند توقف القطار كانت عربة نجيب فى مواجهتى تماما، ابتسم لى برقة وحنان وحيانى رابتا على رأسى. وبعد اندلاع الخلاف بينه وبين ناصر وعزله من السلطة وتولى ناصر السلطة قمنا بتظاهرة كبيرة مطالبين بعودة نجيب وتنحية عبد الناصر مما أدى إلى ملاحقتنا بخيالة البوليس ضاربين إيانا بالكرابيج السودانى، وما زال إحساسى بعلامة الكرباج على ظهرى حتى اليوم.
وعند اعتقاله فى بيت زينب الوكيل بالمرج قررت أن أزوره لأواسيه فى محنته، وتسللت خفية من الحديقة الخلفية، وكان المشهد الذى لن أنساه هو مشهد تمثال سعد زغلول وقد سقط على ظهره بين صفرة الحديقة المهملة ، ربما كانت تنعى دون أن تدرى رجلا كان ذات يوم يوصف بأنه زعيم الأمة.
تسللت من الشرفة الخلفية وكان الرجل يؤدى فريضة الصلاة، بعد ان أنهى صلاته نظر إلى فى حيرة ولكننى أشرت إليه ألا يرفع صوته حتى لا ينبه الحراس، وافهمته أننى أتيت إليه للاطمئنان والتخفيف عنه وإخباره بمدى حب الناس له وأنهم ما زالوا يذكرونه وأبدا لن ينسوه. وفجأة أحسست بضربة مؤخرة بندقية على رأسى من الخلف فصرخت بشدة، لأفيق وأجد أم العربى تنظر إلى بعينين غاضبتين يتطاير منهما الشرر.