بقلم: د. رشدي عوض دميان
بدايةً أرجو أن أعتذر للقارئ مقدمًا عن ما قد يضايقه أو يثير أحاسيسه ومشاعره بسبب عنوان المقالة ومضمونها، كما أعتذر له لأنه ربما قد يصاب بنفس حالة القرف، هذا إذا لم يكن قد أصيب بها من قبل!!
كما أؤكد للقارئ أيضًا أن كلمة (قَرَفْ) هي كلمة عربية فصحى توجد في كل قواميس اللغة العربية ومنها لسان العرب، مقاييس اللغة، الصحاح في اللغة، القاموس المحيط والعُبَاب الزَاخِر وغيرهم.
وهذه الكلمة ليست ضمن مفردات لغة الشارع المصري بصفة خاصة، وإن كانت تبدو أنها من الكلمات العامية إلاَّ أنها تحمل معانٍ وجذور واشتقاقات نحوية ولغوية كثيرة أيضًا، هذا بالإضافة إلى المعنى المتعارف عليه شعبيًا وهـو بالنطق العامي (الأرف) المفهوم ضمنًا بمعنى الاشمئزاز الذي عادة ما يسبب القيء والغثيان.
كنت قد تعوّدت طوال حياتي على أن لا أسمح لأي شيء ما أن يصيبني بالكدر أو بالضيق أو بالقرف أو بالاكتئاب، كما تعودت على أن أتعامل بالهدوء وطول البال وأحياناً بالحزن الصامت مع المواقف التي تتسم بالعنف والحِدَّة، ودائمًا يحدوني الأمل والرجاء في غدٍ أفضل عندما أجد أن بعض الظروف والأحداث تبدو وكأنه لا مهرب من فرضها المؤلم والمرير على أرض الواقع على الرغم من شدتها وقسوتها، ذلك لأن الضحك والحزن هما رد الفعل الطبيعي للشعور بالإحباط والغيظ على حد سواء!!
وأنا شخصيًا أفضل أن أضحك لأنه ليس هناك أفضل من الضحك للتخلص من هذا الشعور المأسوي؟! ولكنني في الآونة الأخيرة أصبت بحالة من القرف والاشمئزاز مما يحدث حالياً وبخاصة في مصر، ووجدتني لا أستطيع أن أتعامل بالأمل وبالرجاء، ولا حتى أن أطبق مقولة أن شر البلية ما يُضْحِك، وتأكدت من أن هذه الحالة لا ينفع معها أي من تلك التعاملات؟!
لا أدرى متى أصابتني حالة القرف هذه بالتحديد؟ ولكنني على يقينٍ من أنها قد ازدادت وتفاقمت منذ حادثة نجع حمادي التي وقعت ليلة الاحتفال بعيد الميلاد المجيد يوم الأربعاء 6 يناير 2010 . هذه الحادثة وإن كانت مؤلمة ومحزنة وقاسية بكل المقاييس على قلوب آباء وأمهات وأقارب كل الذين راحوا ضحية هذا العمل الإجرامي، إلاَّ أنها على الجانب الآخر قد أفرزت هذه الصحوة الكبرى لدى الأقباط الذين قد قسى عليهم الظلم والتَجَبُّر الذي وصل إلى حد المهانة في بلادهم المصرية، بل أنها قد أيقظت الضمير الإنساني في كل مكان في العالم على نحو غير مسبوق وذلك عندما أفاق وعرف مدى بشاعة الفكر المتأسلم المتطرف الذي يرمى إلى العودة إلى عصور الجاهلية المظلمة التي خرجت منها هذه الزمرة من أصحاب هذا الفكر العفن والمقيت.
أصابتني حالة القرف والغثيان من موقف الدولة من هذه الحادثة وخاصة هذا الموقف الذي يتمثل في أجهزتها الرسمية والتنفيذية والدستورية والتشريعية؟! آلمني موقف رئيس الدولة الذي لم يحرك ساكنًا إزاء ما حدث إلاَّ بعد قرابة أسبوعين وكأنه رئيس لدولة أخرى غير التي وقعت فيها تلك الحادثة البشعة؟! ومما ضاعف من قرفي أنه كان قد أرسل برقية تعزية لرئيس دولة أوروبية أصابتها كارثة من الكوارث الطبيعية وليست كارثة بفعل بشرى همجي، وكأنه يلقى باللوم على هذه العوامل الجوية التي ليست لها أية مشاعر آدمية أو إنسانية؟!
قرفت وتعجبت في نفس الوقت عندما عرفت أن عضو مجلس الشعب والنائب عن مدينة نجع حمادي كان قد أنكر معرفته بالمتهم الأول في ارتكاب حادثة القتل، ثم بعد ذلك أثبتت كل الشواهد المسموعة والمكتوبة والمرئية أنه على علاقة به وأن هذه العلاقة هي عبارة عن علاقة أعمال مشبوهة مثل البلطجة وفرض الإتاوات وتزوير الأصوات الانتخابية لصالحه لكي يبقى هو العضو الوحيد في هذا المجلس الذي أصبح عارًا على نظام التمثيل النيابي ورمزًا من رموز تخلف أحد الأجهزة التشريعية في الدولة؟! ومما ضاعف من قرفي وتعجبي عندما علمت أنه يرأس لجنة الزراعة والري بالمجلس، كما أنه قضى أكثر من أربعين عاماً نائباً عن هذه المدينة؟؟!!
آسفت وتحسرت مِنْ وعَلَى موقف رئيس ما يُسَمَّى زوراً بالمجلس النيابي أو مجلس الشعب؟! وما هو إلاَّ ماخور من المواخير الذي يضم بين أعضاؤه من هو قاتل، ومن هو تاجر مخدرات، ومن هو سارق وناهب لأموال بنوك الدولة، هذه التي كانت دولة حقيقية قبل أن تقضى عليها ثورة العسكر وتحولها إلى عزبة يتوارثها مجموعة من اللصوص؟!
أقول آسفت وتحسرت عندما حاول هذا الرئيس أن يجد المبررات والأعذار لوقوع الحادث بأسلوب صبياني أبله لا يخلو من كوميديا سوداء؟!
قرفت وعافت نفسي وزهقت من تكرار الاستماع إلى تلك الشعارات التي تهلهلت وتهرَّأت من كثرة استخدامها والتي يقولها كل مَن كان يشغل منصبًا من المناصب القيادية أمام ميكروفون تضعه في فمه واحدة من مراسلات المئات من القنوات الفضائية التي أصبحت أكثر من الهم على القلب!! هذه الشعارات التي حفظناها عن ظهر قلب والتي منها النسيج الواحد والمصير الواحد وعنصري الأمة وإخوة الوطن والدين لله والوطن للجميع وغيرها من الكلمات التي لا تغنى ولا تفيد، ولا تسد رمق جائع ولا تروي ظمأ عطشان؟!
مللت من مشاهدة هذه الأعداد ممن يذهبون إلى المقر البابوي في ليالي وأيام الأعياد لتقديم التهاني، وجميعهم يقولون نفس الكلمات ونفس الجمل التي باتت مقررة على مسامعنا مثلها مثـل الأناشـيد الوطـنية وأغنيـة (المصريين أهمه) التي تذاع قبيل وبعد كل مباراة قدم؟!
وجميعهم يقولون أنهم يحرصون على الحضور لتهنئة قداسة البابا بالعيد لأن قداسته يعتبر رمز من الرموز المصرية الهامة ، كما أنهم لا بد وأن يرددوا مقـولة قداسته (إن مصر ليست وطنًا نعيش فيه، ولكنها وطن يعيش فينا) والبعض منهم لا يُفَرِّق ما بين عيد الميلاد وعيد القيامة؟! المهم أنه يعقب أي منهما كلمة المجيد وكفي؟! وليفرح كل الأقباط في مصر وبلاد المهجر وليسعدوا لأن السادة الوزراء والمحافظين وأعضاء مجلسي الشعب والشورى ورؤساء المجالس المحلية ورجال الداخلية والأمن وشيوخ الأزهر قد تنازلوا وحرصوا على الحضور لتهنئتهم بعيد (.....) المجيد؟!
هذا ما يبدو للمشاهد في الواقع، ولكن لسان الحال كأنه يقول للأقباط: (ماذا تريدون أكثر من ذلك ؟ ألا يكفيكم أن الدولة قد جعلت يوم عيد ..... المجيد أجازة رسمية، ألا يكفيكم أن السيد الرئيس أرسل لكم برقية تهنئة ؟ ألا يسعدكم حضورنا بأنفسنا لتهنئة البابا)؟!
ومما يحزنني ويفتت في كبدي هو الاستعلاء والمكابرة عند الحديث عن اليهود والأقباط والمسلمين، أو عند ذكر أي شيء يتعلق بالديانات اليهودية والمسيحية والإسلامية، ذلك لأنهم يتجاهلون التسلسل التاريخي، ولندع الحق والباطل الآن جانبًا؟ لن تجد أي من الذين تعوّدوا التشدق بالكلام يذكر الحقيقة المطلقة التي من المؤكد أن القارئ الفطن سوف يلاحظها في هذه السطور؟! فإنني عندما ذكرت أصحاب الديانات، فقد ذكرتهم بحسب التسلسل التاريخي، وكذلك الديانات نفسها ذكرتها بحسب ظهور أولها ثم الديانة التي أعقبتها، وبعد ذلك الديانة الأخيرة؟! لن تجد أيًا من هؤلاء يذكرها بحسب تسلسلها، ولكنهم لا بد وأن يذكروا المسلمون أولاً ثم الأقباط وبعد ذلك اليهود!!
وهكذا بالنسبة للديانات ، فلا بد من ذكر الديانة الإسلامية أولاً ثم الديانة المسيحية وبعد ذلك الديانة اليهودية؟! وكأن الزمن بدأ من حيث بدءوا هم، وكأن التاريخ يُكْتَب ويبدأ من الزمن الحاضر ثم يتقدم راجعًا القهقرى؟! وأتساءل وأنا قرفان لماذا هذا الاستعلاء ولماذا هذه المكابرة؟!
والذي بات ممجوجًا وكريهًا في نفس الوقت هو هذه الحملة الضارية التي يشنها أيضًا من القنوات الفضائية كل من نصَّبُوا مِنْ أنفسهم حماة للدعوة الإسلامية وللدين الإسلامي، وكأن حماية الدعوة والدين لا تتم إلاَّ عن طريق سب وشتيمة أصحاب الديانات الأخرى والتحقير من شأنهم وتحذير المسلمين من مشاركتهم الاحتفال بأعيادهم بحسب ما تفضل وأفتى به الشيخ القرضاوي والشيخ أبو إسلام وغيرهما، هذا غير هذه الأكاذيب والتُرَّهات والإسفافات التي تصدر بين الحين والآخر عن عمارة وزيدان والنجار الذين أساءوا أولاً إلى الدرجات العلمية التي يحملونها قبل أن يسيئوا إلى الديانة المسيحية؟!
إذ أن النهج الذي يتبعونه في إظهار افتراءاتهم ما هو إلاَّ نهج لا يعتمد على الأسلوب الأكاديمي العلمي المعروف والمتعارف عليه في الأوساط الأكاديمية العريقة والذي يجب أن يرتكز فيما يرتكز عليه أولاً عوامل التدقيق والتحقيق والتوثيق، ولكنهم وبدون إِعْمالٍ للعقل والمنطق ولا حتى لأبسط قواعد البحث ، راحوا يتبعون أساليب الكذب والتدليس والتلفيق؟!
ماكس ميشيل ونبيل بباوي وكل من هم على شاكلتهما ممن باعوا ضمائرهم وكان الثمن هو كرامتهم التي داستها وتدوسها أقدام من يظنون أنهم سادتهم !! هؤلاء قد أسهموا بنصيبٍ وافرٍ في تفاقم حالة القرف التي أعانى منها -ليس فقط منهم- ولكن أيضًا من الذين يسيرون ورائهم؟!
صبغة الشعر الرجالي خاصة عندما يستخدمها الرجل الذي تعدى السبعين أو الثمانين من العمر؟! هذه الصبغة الحالكة السواد والتي في لون ليلة كئيبة ومظلمة لم يطلع لها نهار ، هذه الصبغة التي يصبغ بها رئيس الدولة شعره هو وحاشيته زادت من حالة إحساسي بأن الظلم والظلام باتا من معالم حياتنا اليومية التي نحياها؟!
هناك مقولة مفادها أن الإنسان الفاقد الوعي لا يستطيع أن يرتق ثوبه المـُمَزَّق، ولكنه يستطيع أن يصبغه!!
قائمة مسببات حالة القرف التي أعانى منها هي قائمة طويلة ومملة وكئيبة!! وهى تحمل نفس المعنى أيضًا، أي أنها قائمة مقرفة!!
وأجدني أشفق على القارئ أن يعاني منها هو أيضًا وأعتذر له مرة أخرى، إذ يكفيه الصراع الذي يعيشه في حياته اليومية لكي يُبْقِى على نسبة التوازن المطلوب، حتى لا يجد نفسه يعيشها بالمقلوب؟!