بقلم : مهندس عزمي إبراهيم
يتردد هذه الأيام تصريحٌ لفضيلة شيخ الأزهر، الرجل الطيب، الدكتور أحمد الطيب، مضمونه أنه "يجوز بناء الكنائس في مصر بما لا يضر بالأمن القومى للبلاد.". وقد أثار التصريح كثيراً من الجدل والاحتجاج والنقد من الطرفين: المسلمين والمسيحيين. أو بالأصح، من (بعض) المسلمين و(بعض) المسيحيين.
وإذا أردنا العدل في الحكم على تصريح فضيلة شيخ الأزهر، أو موقف الأزهر في هذا الأمر، لا بد أولا أن نُجَزِّيء التصريح إلى جزئين:
** جَواز بناء الكنائس في مصر، وهو ما اعترض عليه (بعض) المسلمين.
** الضَّرُ بالأمن القومي بمصر، وهو ما يعترض عليه (بعض) المسيحيين.
***
أولاً: عَن جواز بناء الكنائس في مصر وهو ما يعترض عليه (بعض) المسلمين:
هذا في حد ذاته أمر كثر فيه النقاش والجدل والتفسير الفقهي والشد والجذب بين الإحلال والمنع. وموقف الأزهر الشريف في هذا الأمر صريح ويثبت، رغم الجهات المعارضة، تقدير قيادته للبنيان الشعبي الوطني لمصر، وأن الوطن إلى جانب أغلبيته المسلمة يحتضن مواطنين بعقائد مختلفة، مما يؤكد اعتدال الأزهر وشيوخه. وجدير بالذكر أن تلك الفتوى ليست الأولي في تاريخ الأزهر الشريف مُدَعَّمة من دار الافتاء المصرية. وذلك منذ عام 1999 حتى إبّان موجات التشدد الإسلامي التي فاضت على مصر من الأخوان المسلمين والسلفيين الوهابيين وغيرهم في عام 2011.
ولعدم إطالة المقال، أكتفي بما جاء بجريدة اليوم السابع، في عددها الصادر يوم الأربعاء 12 أكتوبر 2011. وهو خبر بعنوان : "دار الإفتاء: يجوز للمسيحيين بناء الكنائس فى ظل دولة الإسلام وفق لوائح وقوانين الدولة.. ولا يوجد نص شرعى صحيح صريح يمنع بناء دور العبادة ببلاد المسلمين.. ونحن مكلّفون شرعا بتوفير الأمان لأهل الكتاب."
ونصه:"أكدت دار الإفتاء المصرية، أنه يجوز للمسيحيين فى الديار المصرية، وفقًا للشريعة الإسلامية بناءُ الكنائس فى ظل الدولة الإسلامية، إذا احتاجوا إلى ذلك فى عباداتهم وشعائرهم التى أقرهم الإسلام على البقاء عليها، وذلك وفق اللوائح والقوانين التى تنظمها الدولة المصرية فى ذلك؛ حيث لم يَرِدْ فى الشرع الحنيف المنعُ من ذلك فى شىء مِن النصوص الصحيحة الصريحة، وأنه طبقا لذلك جرى العمل عبر العصور المختلفة، ووفق اللوائح والقوانين التى تنظمها الدولة المصرية فى ذلك الأمر.
وأشارت دار الإفتاء، فى بيانها الصحفى الصادر اليوم الأربعاء، إلى أنها أكدت سلفا فى معرض ردها على سؤال حول مشروعية بناء الكنائس للمسيحيين فى مصر، أنه لا يخفى أن سماح الدولة الإسلامية لرعاياها ومواطنيها من أهل الكتاب ببناء الكنائس ودور العبادة عند حاجتهم لذلك يعد هو المصلحة الراجحة والرأى الصائب التى دلت عليه عمومات النصوص الشرعية من الكتاب والسنة، وأكدها عمل المسلمين عبر العصور والأمصار، وأيدتها المقاصد الكلية ومرامى الشريعة هذا بالإضافة إلى المتغيرات العالمية والدولية والإقليمية والمحلية، وقيام الدولة المدنية الحديثة على مفهوم المواطنة الذى أقره النبى صلى الله عليه وسلم فى معاهدة المدينة المنورة، ومبدأ المعاملة بالمثل بين الدول.
وبينت الفتوى، أنه قد سبق لدار الإفتاء المصرية فى عهد الدكتور نصر فريد واصل المفتى الأسبق إصدار فتوى عام 1999 ميلادية بجواز بناء الكنائس فى بلاد الإسلام؛ حيث جاء فيها: "أن الإسلام يعطى أهل الكتب السماوية نصرانية أو يهودية أو غيرهما الحرية الكاملة فى ممـارسة طقوسهم الدينية وإقامة معابدهم وتركهم وما يدينون، طالما أنهم لا يعادون الإسلام ولا يعينون عليه أحدًا".
وأوضحت أن هذه الفتوى مؤسسة على الدلائل الشرعية المستقرة التى تثبت أن الإسلام هو دينُ التعايش، ومبادئه تدعو إلى السلام ولا تُقِرُّ العنف، ولذلك لم يجبر أصحاب الديانات الأخرى على الدخول فيه، بل جعل ذلك باختيار الإنسان فى آيات كثيرة نص فيها الشرع على حرية الديانة، بل أمر الشرع بإظهار البر والرحمة والقسط فى التعامل مع المخالفين فى العقيدة.
كما شددت الفتوى التى حملت توقيع أمانة الفتوى على أن الإسلام ترك الناس على أديانهم ولم يُجبِرْهم على الدخول فى الإسلام قهرًا، فقد سمح لهم بممارسة طقوس أديانهم فى دور عبادتهم، وضمن لهم من أجل ذلك سلامة دور العبادة، وأَوْلاها عناية خاصة؛ فحرم الاعتداء بكافة أشكاله عليها بل إن القرآن الكريم جعل تغلُّب المسلمين وجهادهم لرفع الطغيان ودفع العدوان وتمكين الله تعالى لهم فى الأرض سببًا فى حفظ دور العبادة – سواء أكانت للمسلمين أم لغيرهم- من الهدم وضمانًا لأمنها وسلامة أصحابها بل إن الشرع الشريف أذن لأهل الديانات السماوية ببناء ما تهدم من كنائسهم وترميم ما تصدع منها؛ معلِّلا لمشروعية إعادة بناء الكنائس المنهدمة أنه جرى التوارث من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا بترك الكنائس فى أمصار المسلمين.
واستشهدت دار الإفتاء بأنه إذا كان النبى صلى الله عليه وسلم قد أقرَّ فى عام الوفود وفد نصارى نجران على الصلاة فى مسجده الشريف، والمسجد هو بيت الله المختص بالمسلمين، فإنه يجوز -مِن باب أَوْلَى- بناءُ الكنائس ودور العبادة التى يؤدون فيها عباداتهم وشعائرهم التى أقرهم المسلمون على البقاء عليها إذا احتاجوا لذلك.
ولفتت أمانة الإفتاء إلى أن الشريعة الإسلامية كلفت المسلمين بتوفير الأمان لأهل الكتاب فى أداء عبادتهم تحت مظلة الدولة الإسلامية، وهذا كما يقتضى إبقاء الكنائس ودور العبادة على حالها من غير تعرض لها بهدم أو تخريب، وإعادتها أيضًا إذا انهدمت أو تخربت، فإنه يقتضى أيضًا جواز السماح لهم ببناء الكنائس وأماكن العبادة عند احتياجهم إلى ذلك؛ فإن الإذنَ فى الشىء إذنٌ فى مُكَمِّلات مَقصودِه، كما ورد عن علماء الأمة الإسلامية وإلا فكيف يُقرّ الإسلام أهل الذمة على بقائهم على أديانهم وممارسة شعائرهم ثم يمنعهم من بناء دور العبادة التى يتعبدون فيها عندما يحتاجون ذلك! وعلى ذلك جرى عمل المسلمين عبر تاريخهم المشرف وحضارتهم النقية وأخلاقهم النبيلة السمحة؛ منذ العصور الأولى وعهود الصحابة والتابعين وهلم جرًّا.
وأضافت الفتوى أن المؤرخين كذلك أكدوا على أنه قد بُنِيت فى مصر عدة كنائس فى القرن الأول الهجرى، مثل كنيسة "مارى مرقص" بالإسكندرية ما بين عامى 39 و56 هجرية، وفى ولاية مسلمة بن مخلد على مصر بين عامى 47 و 68 هجرية بُنِيت أول كنيسة بالفسطاط فى حارة الروم، كما سمح عبد العزيز بن مروان حين أنشأ مدينة "حلوان" ببناء كنيسة فيها، وسمح كذلك لبعض الأساقفة ببناء ديرين كما يذكر المؤرخ المقريزى أمثلة عديدة لكنائس أهل الكتاب، مؤكدا أن جميع كنائس القاهرة المذكورة محدَثة (أى تم إنشاؤها ) فى الإسلام بلا خلاف ـ وشددت أمانة الفتوى على أن ما يُحتَجُّ به على منع بناء الكنائس فى بلاد الإسلام مِن أحاديث كلها أحاديث ضعيفة لا تقوم بها حجة، ولا يُعمَل بمثلها فى الأحكام، والصحيح منها محمول على منع بناء الكنائس فى جزيرة العرب دون سواها من دول الإسلام، وكذلك ما يُحتجُّ به من حكاية الإجماع فى ذلك، كل ذلك مخالفٌ لمَا عليه عملُ المسلمين سلفًا وخلفًا كما سبق.
وأن ما قاله جماعة من الفقهاء بمنع إحداث ( إنشاء) الكنائس فى بلاد المسلمين: هى أقوال لها سياقاتها التاريخية وظروفها الاجتماعية المتعلقة بها؛ حيث مرت الدولة الإسلامية منذ نشأتها بأحوال السلم والحرب، وتعرضت للهجمات الضارية والحملات الصليبية التى اتخذت طابعًا دينيًّا يغذيه جماعة من المنتسبين للكنيسة آنذاك، مما دعا فقهاء المسلمين إلى تبنى الأقوال التى تساعد على استقرار الدولة الإسلامية والنظام العام من جهة، ورد العدوان على عقائد المسلمين ومساجدهم من جهة أخرى. ولا يخفى أن تغير الواقع يقتضى تغير الفتوى المبنية عليه؛ إذ الفتوى تتغير بتغير العوامل الأربعة (الزمان والمكان والأشخاص والأحوال".
انتهى الخبر بفحوَى الفتوى.
***
ثانياً: عَن الضَّرُ بالأمن القومي بمصر، وهو ما يعترض عليه (بعض) المسيحيين:
إذا نظرنا إلى روح التصريح لا نَصِّه، والمقصود منه لا تركيبه اللفظي أو الحرفي، أعتقد، بل وأجزم، أن ما قصده فضيلة شيخ الأزهر بقوله:
"يجوز بناء الكنائس في مصر (بما) لا يضر بالأمن القومى للبلاد."
هو....
"يجوز بناء الكنائس في مصر (لأنه) لا يضر بالأمن القومى للبلاد"
لأن فضيلته يعلم علم اليقين أن الأقباط، تحت أيٍ من الظروف السيئة والقاسية العديدة، لم يخرجوا من الكنائس للإخلال بالأمن القومي أبداً. ولم يخرجوا حتى بمظاهرات سِلمية أو احتجاجية من الكنائس أبداً.
ولأن فضيلته أيضاً يعلم علم اليقين مدي التظاهرات المُدمّرة التي قاست منها مصر وخاصة الأقباط بعد صلاة الجمعة اسبوعياً استجابة للخطاب الديني المفجر للغضب والبغضاء وإلهاب مشاعر المتأسلمين والمسلمين البسطاء للعنف والإرهاب حتى سفك الدماء.
بهذا لا أرى لأي من الطرفين حقاً في الاحتجاج. وعاشت مصر حرة مستقرة بنسيجها الوطنى.