بقلم منير بشاى
فى الأيام القليلة الماضية مررت بإختبارين يمسان علاقة امريكا بمصر، كلاهما يتفقان فى الموضوع، ولكنهما يختلفان فى التوجه. أحدهما يستجدى معونة امريكا والآخر يشتم امريكا. والغريب ان هذين النقيضين يعبران عن فهم معظمنا للعلاقة الأمريكية المصرية.
الاول كان فى شكل اتصال هاتفى من صديق يعيش فى الولايات المتحدة وذلك بعد ان إلتقى بشخصية مصرية مرموقة أتى لزيارة الولايات المتحدة محملا برسالة الى "اقباط المهجر". وقد نقل لى صديقى كلام الزائر المصرى وهو طلب ان يقوم أقباط المهجر باتصالات سريعة مع الحكومة الامريكية والحكومات الغربية من اجل مد مصر بالمساعدات للنهوض باقتصادها المتهالك.
أما الثانى فكان فى شكل مقال للكاتب انور الهوارى عنوانه "منذ 21 ساعة- ما بعد الاهانة" ويشتكى الكاتب من ما يسميه "اهانة أمريكا لمصر" التى يصفها "انها ليست جديدة ولكن الجديد انها بلغت حد الوقاحة" حسب قوله.
بداية تعجبت من البساطة التى تصل الى حد السذاجة من قبل البعض الذين هم على درجة عالية من التعليم ومع ذلك يظنون ان "اقباط المهجر"، فى استطاعتهم ان يغيّروا سياسة الدول التى يعيشون فيها بمجرد اجراء اتصال ترسل تلك الدول بعده فورا مليارات الدولارات لإنقاذ اقتصاد مصر. تعجبت كيف لا يعرفوا ان القرارات السيادية التى تتعلق بالميزانية والاعانات الخارجية تخضع لاعتبارات كثيرة وتتم بعد تشاورات مكثفة على اعلى مستوى داخل الحكومة والكونجرس. هذه القرارات لا يمكن تغييرها الا اذا انصلحت العلاقة بين البلدين وتم علاج اسباب الصدع بينهما. وعلى ذلك فالجهة المعنية بعمل الاتصالات هى الحكومة ووزارة الخارجية وسفاراتنا فى الخارج وليس اقباط المهجر.
اما الكاتب الذى ينعت امريكا بالوقاحة فسببه تصريحا للمتحدثة بإسم الخارجية الامريكية "مارى هارفى" قالت فيه "علاقتنا باسرائيل علاقة بين جيشين وهى قوية للغاية ولا تقارن بعلاقتنا بمصر. اموال المساعدات كانت تستخدم من قبل الحكومة المصرية ضد شعبها من خلال عمليات قمعية ضد متظاهرين سلميين لكن اسرائيل تستخدمها لقتال منظمة ارهابية وهو ما نعتقد انه دفاع مشروع"
طبعا من حقنا ان نختلف مع تصريح المتحدثة الامريكية، ولكن نعت دولة كبرى بالوقاحة هو فى ذاته نوعا من الوقاحة. هذا خاصة ان ما تقوله المتحدثة الأمريكية فيه الكثير من الصدق. فالمعروف ان حكومة مبارك كانت تسىء استخدام المعونة الأمريكية فكان بعضها يذهب الى جيوب المسئولين لقمع الشعب وليس لتعزيز الديمقراطية. ثم كيف يجهل الكاتب ما يعرفه العالم كله وهو ان الولايات المتحدة لها علاقة خاصة باسرائيل لأنها تستطيع ان تطمئن الى اخلاصها على عكس علاقتها بالدول العربية. ثم لماذا يتضايق الكاتب عندما تطلق امريكا على حماس انها منظمة ارهابية؟ اليس هذا ما كنا نريدهم الاعتراف به وها قد تحقق لنا ما نريده؟
ولكن كاتب المقال لا يكتفى بمهاجمة المتحدثة بإسم خارجية امريكا وحدها بل يتعداها لنقد المتحدث بإسم الخارجية المصرية لأنه لم يشتم أمريكا بالقدر الكافى، فكل ما قاله ان مصر ترفض هذه التصريحات لأنها لا تعبّر عن الواقع. واضح ان كاتب المقال كان ينتظر من الخارجية المصرية ان تشتم الحكومة الأمريكية وتصفها بأسماء مثل "وقاحة" واخواتها. ولكن كلام الدبلوماسيين يستعمل بمعيار دقيق ويحسب عواقب كل كلمة ويختلف عن اساليب "ردح" الشوارع. هذا خاصة اذا كنت مصر تعمل حساب اليوم الذى قد تحتاج فيه الى مساعدة أمريكا.
وفى المقال يشير الكاتب الى ما ورد فى مذكرات احمد ابو الغيط وزير الخارجية المصرية الأسبق حيث ذكر ان امريكا طلبت من مصر فور قيامها بغزو افغانستان ان تشارك فى ائتلاف القوى المحاربة ضد ذلك البلد الإسلامى. كانت امريكا تهدف الى ان تبعد شبهة الدين عن تلك الحرب بحيث لا تصبح حربا بين الدول المسيحية ودولة اسلامية بل تكون حربا بين عدد من دول العالم ودولة تحتضن الارهاب. وكان هذا تصرفا سياسيا منطقيا من امريكا وكانت تنتظر من دولة صديقة مثل مصر، والتى تتلقى المليارات من الاعانات السنوية، ان تساعدها عليه. ولكن طبقا لكلام ابو الغيط فان مصر رفضت ان تساعد امريكا فى حرب افغانستان لإعتبارات تخصها وهى حساسية ارسال قوات مصرية الى ارض اسلامية للقتال فى صف قوى غربية. طبعا من حق مصر ان "تحسبها صح" فيما يتعلق بمصالحها، ولكنها لا يجب ان تغضب من امريكا اذا لجأت الى تخفيض الاعانة عندما احست ان مصر قد خذلتها ولم تساعدها على تحقيق مصالحها.
ولكن ذروة السذاجة عندما يلوم الكاتب امريكا على مشاكل مصر فيقول "اعلم ان امريكا- على مدى السنوات العشرة الاخيرة- عاقبت مصر بكل سبيل حتى اغرقتها فى دوامة الفوضى ثم سلمتها لحلفائها الجدد والجماعات". وهنا يبدو لى ان هناك سوء فهم للغرض من المعونات الدولية فالبعض يعتقد ان امريكا ملزمة بتقديمها والا تكون مسئولة عما يحدث لمصر ان توقفت. بعيد عن المثاليات التى لا مكان لها فى عالم السياسة فان المعونات التى تقدمها الدول لها هدف واحد وهو حفز المتلقى للمعونة على مساعدة من يدفع له المعونة لتحقيق اهدافه السياسية. وهى تختلف عن المعونات الاهلية، التى تقدم من منظمات المجتمع المدنى، وهى كثيرة فى امريكا، وهدفها انسانى صرف وتقدم من الشعب الامريكى الكريم لدول العالم دون قيد او شرط عندما تجتاز فى كوارث طبيعية او ازمات غير عادية.
لوم الادارة الامريكية على تعاملها مع جماعة الاخوان لا خلاف عليه. ولكن الادارة الأمريكية لها منطقها وهو انها وجدت فى جماعة الاخوان من تعتقد ان لهم نفوذ عند التيار الاسلامى المتشدد ويستطيعوا التأثير عليهم لقبول الرأى الأمريكى. وبالتالى علينا ان نفهم خيبة الأمل الأمريكية عندما قامت ثورة 30 يونيو التى كانت نتيجتها قيام الجيش بعزل الرئيس مرسى وازاحة نظام الاخوان من السلطة. بالنسبة للشعب المصرى، كان هذا اسعد حدث فى تاريخ مصر الحديث. ولكن بالنسبة للادارة الأمريكية كان هذا معناه فشل الخطة التى كلفتها مليارات الدولارات انفقتها على حليف كانت تعقد عليه الآمال العريضة وقد تبخرت تلك الآمال فى لحظة من الزمن.
ولكن الشىء الذى يجب ان نعرفه ان الدول لا تخاصم الى الأبد. ولكنها مثلما تتصادم مع غيرها عندما تمس مصالحها، فانها بنفس المنطق تسرع الى خطب ود الدول الاخرى عندما ترى ان مصلحتها تتطلب ذلك.
هذه الحقيقة التى تعبر عن التقارب الأمريكى المصرى الجديد نراها واضحة فى تصريح الرئيس اوباما فى 3 أغسطس 2014 ردا على رسالة لوم موجهة له من جماعة الاخوان بخصوص موقفه السلبى من عزل الرئيس مرسى. وقد دافع اوباما عن موقفه عندما قال "لقد اثبت الرئيس مرسى انه كان عاجزا عن ان يلبى تطلعات القطاع العريض من الشعب المصرى. هذا بينما استجابت الحكومة الانتقالية التى خلفته لمطالب ملايين المصريين الذين اعتقدوا ان الثورة قد تغيّر مسارها".
خلاصة القول ان امريكا ليست الشيطان الأكبر كما انها ليست ملاكا هبط من السماء. هى دولة من البشر تعمل لتحقيق مصالحها التى قد تتفق او تتعارض مع مصالحنا. واعتقادى ان مصالح امريكا يمكن ان تلتقى مع مصالح مصر اذا عرفنا قواعد اللعبة السياسة واستخدمناها بحنكة وذكاء.
Mounir.bishay@sbcglobal.net