بقلم : يوسف سيدهم
في معترك السياسة -خاصة السياسة الدولية- هناك الكثير من الأمور التي لا ينطق بها وتظل مسكوتا عنها وتبقي محل اجتهاد المراقبين أو استنتاج المحللين.. لذلك ما أتعرض له اليوم يندرج تحت هذا الواقع ويخضع لاحتمالات الصواب أو الخطأ, إنه ميزان العلاقات بين مصر وكل من قطبي السياسة الدولية في عالم اليوم: أمريكا وروسيا. فالتطورات التي تواترت علي مصر خلال العام الماضي ومنذ ثورة 30يونية 2013 وضعت هذه العلاقات في صدارة الأمور التي أعيد تقديرها وتقييمها سواء علي مستوي الدولة المصرية أو علي المستوي الشعبي لدي المصريين.. وبينما لم يتحفظ المصريون في تعبيرهم عن الغضب العميق إزاء مواقف أمريكا في مقابل الترحيب الحار بمواقف روسيا, انحازت الإدارة المصرية إلي الالتزام بضبط النفس تجاه أمريكا -وتوابعها من دول العالم الغربي- وعدم مبادلة العداء بالعداء وبذل كل الجهد نحو إيضاح حقيقة ما حدث علي أرض مصر تنفيذا لإرادة المصريين, وفي ذات الوقت لم تتردد هذه الإدارة المصرية أبدا في الاستجابة لمبادرة ومغازلة روسيا لإحياء صداقة قديمة وتنشيط علاقات هادئة في توجه عبر عنه وزير الخارجية السابق نبيل فهمي بقوله: نحن نعمل دوما علي الاحتفاظ بالأصدقاء القدامي بجانب اكتساب أصدقاء جدد في إطار المصلحة الوطنية والاستراتيجية القومية المصرية.
هذا ما يخص القدر المعلن والمصرح به في هذا الملف, أما عن المسكوت عنه والمتروك لاجتهاد المجتهدين فقد توقفت أمام أمر لا يمكن أن يكون عارضا, أو محض صدفة, لأن العلاقات الدولية -خاصة في ظل الإدارة المصرية الرشيدة الحالية- لا يتم المغامرة بها دون حسابات دقيقة متأنية.. هذا الأمر هو لماذا ذهب رئيس الوزراء إبراهيم محلب إلي واشنطن, بينما ذهب رئيس الجمهورية عبدالفتاح السيسي إلي موسكو؟.. وحتي لا يتسرع أحد ويدفع بأن كل ملتقي دولي له مستوي التمثيل الذي يتناسب معه دعوني أذكركم بأن محلب ذهب إلي واشنطن لتمثيل مصر في مؤتمر أمريكا ودول أفريقيا الذي دعي إليه كل رؤساء الدول الأفريقية المشاركة, ومثل أمريكا فيه رئيسها باراك أوباما الذي لم يكن تمثيله هامشيا أو بروتوكوليا بل كانت مشاركته فعالة واستقباله لجميع المشاركين واضحا حتي أنه التقي أيضا برئيس الوزراء المصري وتبادلا المناقشات والمجاملات.
إذا مصر اكتفت بإرسال رئيس وزرائها إلي واشنطن وسط حشد من رؤساء الدول, ولم يكد مؤتمر واشنطن ينهي أعماله ويصدر توصياته حتي أعلنت مصر أن رئيسها عبدالفتاح السيسي سيسافر إلي موسكو للقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ويجري معه محادثات حول مستقبل العلاقات المصرية الروسية وآفاق التعاون المستقبلي والقضايا المصيرية التي تتعاقب علي منطقتنا وتؤثر في سلامها واستقرارها وأمنها.
هذا الاختلاف الواضح بين تعامل القاهرة مع كل من واشنطن وموسكو استرعي انتباهي وأكرر أنه لا يمكن أن يكون محض صدفة, بل أري فيه رسالة بالغة الأهمية تريد مصر أن ترسلها إلي طرفي هذا الاختلاف أولا وإلي كافة دول العالم المعنية ثانيا, ومضمونها أن مواقف أمريكا تجاه ثورة الشعب المصري -في 25يناير 2011 وفي 30يونية 2013- تركت مساحة كبيرة من الغضب وعدم الثقة لدي المصريين وصلت لدي بعضهم -ومنهم كاتب هذه السطور- إلي حد الصدمة إزاء صورة أمريكا ومصداقيتها ودرجة الصداقة التي تربطها بمصر, حتي إن الإدارة المصرية باتت تتوجس من السياسات الأمريكية وبعدما كانت هناك مساحة مشتركة لا بأس بها تجمع بين المصالح الاستراتيجية المصرية ومثيلتها الأمريكية إذ بتلك المساحة تتقلص بشكل ملحوظ ويزحف عليها التآكل والفتور.
أما علي الجانب الآخر فإن الرسالة الموجهة إلي روسيا هي رسالة دافئة فيها حنين إلي ماض قريب كانت فيه العلاقات المصرية الروسية وثيقة وحميمة وتوصف بأنها علاقات استراتيجية, لعبت روسيا فيه دورا مؤازرا ومعضدا وصديقا لمصر علي كافة الأصعدة السياسية والعسكرية والاقتصادية وانحازت إلي جانب المصالح القومية المصرية وتطلعات الشعب المصري في بناء مستقبل أفضل وتنمية بلاده.. وها هي التطورات الأخيرة علي الساحتين المصرية والعالمية تشهد بأن هذه العلاقات -وإن كانت تعرضت لشبه تجميد أو فتور لنحو ثلاثة عقود من الزمان- إلا أنها لم تأفل أو يزحف عليها الصدأ, وها هي الإدارة الروسية تنحاز بلا تردد لتأييد ثورة الشعب المصري وإرادته في إزاحة الغمة التي لحقت به وتعرض كل المؤازرة والمساعدة التي تعين مصر علي تجاوز محنتها وتسرع نحو إحياء وتنشيط العلاقات الحميمة القديمة.. وحسنا كانت استجابة المصريين -شعبا وإدارة- للمبادرة والمواقف الروسية حيث استقبلوها بحفاوة وتقدير بالغين ووضعوا فيها ثقتهم التي سحبوها من أمريكا متطلعين إلي صداقة وشراكة متجددة تربط البلدين في المرحلة المقبلة.
وليس من قبيل المصادفة أيضا أن يتواكب مع ذلك التحول الاستراتيجي في العلاقات المصرية الأمريكية وفي العلاقات المصرية الروسية إعلان مصر عن أكثر من مشروع قومي ضخم لبعث النهضة الاقتصادية والتنموية والعمرانية علي أرض مصر, وفي صدارة هذه المشروعات يبرز بشدة مشروع قناة السويس الذي لا يقل أبدا في عظمته وثقله عن السد العالي وعن توشكي, فما يتضمنه من تحديث وتعميق وتطوير في المجري الملاحي للقناة وحفر قناة ثانية جديدة موازية للأولي لضمان ازدواج المجري بكامل طوله علاوة علي المراكز المتعددة لتنمية محور القناة اقتصاديا وصناعيا وتجاريا, هذا المشروع يعد بلا مبالغة قبلة الحياة للاقتصاد المصري لإقالته من عثرته ولفتح آفاق مستقبل مشرق للأجيال القادمة في هذا البلد.. ولعل ما يتواءم مع هذا الحلم الذي بدأ تحقيقه علي أرض الواقع أن تكون روسيا صديقا وعونا لمصر في إنجازه.
أعرفتم لماذا ذهب محلب إلي واشنطن.. ولماذا ذهب السيسي إلي موسكو؟