الأقباط متحدون - الحب العفيف.. مي زيادة
أخر تحديث ٠٨:١٥ | الأحد ٢٤ اغسطس ٢٠١٤ | مسرى ١٧٣٠ ش ١٨ | العدد ٣٣٠٠ السنة التاسعه
إغلاق تصغير

شريط الأخبار

الحب العفيف.. مي زيادة

 كمال زاخر
كمال زاخر
بقلم : كمال زاخر
أستأذنكم في أن أغرد خارج السرب، فى لحظة تفرض علينا التوقف والتدبر، ونحن مقبلون على تحد مصيرى، نراهن فيه على إرادتنا وقدرتنا على الخروج من النفق، وقد طال، بعقول مصرية وأيد مصرية، وحتى لا تستغرقنا تداعيات الحراك الثائر والذى آن له أن ينتقل إلى فعل بناء، رغم إغراءات اجترار اللحظة الثورية والتى تهددها صراعات الأنا، بين الرفقاء الفرقاء، فيتقدم الذاتى على الجمعى والخاص على العام.
 
داعبتنى سيرة الأديبة مي زيادة حيناً قبل سنوات، وأنا اتنقل بين عمالقة الأدب والإبداع، وقت أن كان للمكتبة المدرسية حصة أسبوعية فى الجدول الدراسى، ننتقل إليها من الفصل إلى حيث موقعها بجوار مكتب ناظر المدرسة، والذى كان حريصاً على متابعتها، وكثيراً ما كان يشاركنا فى الوقوف على ما نقرأ وعندما يلمس استيعاب تلميذ لما يقرأ ينفحه ورقة مالية من فئة العشرة قروش من جيبه الخاص، وما أدراكم ما كانت تفعله وقتها بذاك التلميذ وبنا.
 
صادفتنى السيرة نفسها، بعد نحو نصف قرن، وأنا أعيد ترتيب مكتبتي وكأننى لم أقرأها قبلاً، واستغرقتنى عبر كتاب "مى زيادة.. أسطورة الحب والنبوغ"، والصادر ضمن أعمال مكتبة الأسرة "2000" للأديبة الصحفية المبدعة "نوال مصطفى" التى لم تقع فى شباك السرد التقليدى، لكنها عاشت مع "مى" وطافت معها فى مشوارها الثرى والملحمى، تتأمل وترقب كيف استطاعت فتاة قادمة من الشام بسنواتها العشرين، وثقافتها "الكوزموبوليتانية"، أن تشكل ظاهرة أدبية فريدة، وهى تتوزع بين موطن أمها الفلسطينية الأرثوذكسية، وأبيها اللبنانى المارونى، واستقرارها بمصر بتنوعاتها وتعدديتها، على خلفية نشأتها فى مدارس الراهبات الصارمة، وإتقانها للفرنسية والإنجليزية والألمانية.
 
 
وبتوجيه من أستاذ الجيل أحمد لطفى السيد تنكب على القرآن الكريم حتى تتقن العربية، وتجيدها فتجذب إليها عمالقة الأدب العربى ليحلوا ضيوفاً دائمين فى صالونها الثقافى الأشهر بين نظرائه، بعد أن اتخذت لها اسماً أدبياً تعرف به، مى زيادة، وقد اختارت الحرفين الأول والأخير من اسمها

"مارى"، ولقب عائلتها؛ زيادة، لتتحول "مارى إلياس زيادة" إلى "مى زيادة"، ويتيهون بها وتتحول إلى ملهمة لهم يتبدى تأثيرها فى إنتاجهم الأدبى؛ محمود عباس العقاد وأحمد شوقى ومصطفى صادق الرافعى وإسماعيل صبرى وخليل مطران وطه حسين وأحمد لطفى السيد، وتمتد خيوط التواصل بينهم، لكنها تحتفظ بمسافة تبقى على العلاقات معهم فى إطارها الفكرى والإبداعى والروحى.
 
وتتشكل علاقة تحار فى تبويبها بينها وهى في مصر وبين الأديب جبران خليل جبران وهو في أمريكا، تمتد لنحو تسعة عشر عاماً لم يلتقيا وجهاً لوجه منذ بدايتها وحتى رحيل جبران عن عالمنا، وكان تواصلهما عبر الخطابات التي سجلت أروع حكايات الحب في أسفارنا العربية..
 
وكشهب تمرق الأيام لتحط رحالها بقسوة عندما يتوالى رحيل أحباء مى تباعاً وفى فترة وجيزة، تبدأ برحيل الأب ثم الأم وغير بعيد يرحل جبران، لتدخل فى انكسارة تقذف بها إلى القنوط والحزن، وتقع فريسة مطامع الأقارب، بعد أن احتالوا عليها بعد أن عرفوا نيتها بأن تتبرع بمكتبتها النفيسة

إلى الأمة المصرية، وأن تهدى النسخ المزدوجة من كل كتاب إلى الأمة اللبنانية، احتالوا عليها فإذا بها داخل أسوار مصحة العصفورية بلبنان، وهى مصحة للأمراض العقلية، لتبقى فيها عامين، ويأتى الغوث من الصحافة التى تنتبه لما حدث لها وتتابع قضيتها وتشن حملة صحفية عارمة

تستمر لأربعة شهور، تنجح فى كشف المؤامرة، وتأمر النيابة العامة بنقلها إلى المستشفى الأمريكى وتشكل لجنة طبية لزيارتها ووضع تقرير عن حالتها، ينتهى لصالحها، ويفرج عنها لتعود إلى الحياة خارج الأسوار.

ويواصل الأقارب سعيهم من أجل بضعة دنانير ومتاع زائل، فيقيمون دعوى قضائية للحجر عليها، وفى أثناء ذلك تدعوها الجامعة الأمريكية لتلقى محاضرة عامة فى أكبر قاعاتها "وست هول" التى احتشدت بالحضور، وتتابع الكاتبة نوال مصطفى تفاصيل هذا اليوم بتنقيبها فيما كتب عنه فى

الصحافة اللبنانية، فترصد فى سطورها "أن البعض جاء وهو على يقين من جنونها، والبعض كان بين الشك واليقين، والقليل جداً كان من المؤمنين بكذب هذه الدسيسة، وقفت مى بشجاعة ظاهرية وقلب كسير تتحدث فى 22 مارس 1938 إلى جمهور كبير جاء ليستمع إليها.. ووسط

هذا الجمع الغفير يجلس "راجى الراعى" النائب العام، الذى جاء لهدف آخر تماماً، فقد كان يصغى باهتمام، ويراقب كل ما يحدث استكمالاً لتحقيقاته فى القضية المعروضة أمام المحكمة بالحجر على "مى"
 
وتواصل الأديبة نوال مصطفى متابعاتها وكأنها تجلس وسط القاعة لتسجل "لم تكد مى تنتهى من محاضرتها التى سحرت الجمهور انبهاراً بقدرتها التحليلية، وثقافتها الطاغية، وملكاتها الناطقة فى ربط الأفكار التى تطرحها بعضها ببعض ببساطة، ورؤيتها الحكيمة السابقة لعصرها حتى ضجت القاعة بالتصفيق المتواصل الذى يفيض بالحماس والحب والتعاطف مع الأديبة والمفكرة المظلومة"
 
وتتحول المحاضرة إلى مستند قانونى يقدمه ممثل النيابة العامة الى المحكمة، ويعقب عليها بقوله "دقت الساعة الثامنة، فإذا مى تطل على المسرح وقد لعبت بها الأهوال، فلعب الشيب برأسها، ووقفت على المنبر وأخذت تتدفق بذلك البيان الساحر الذى تعود العالم العربى أن يسمعها تنقر على أوتاره الخلابة بريشة لو رآها رافايل وروبنس لادعيا أنها ريشتهما وأن مى اغتصبتها فى حين أنها ريشتها التى وضعها الله فى يدها منذ كونها فى أحشاء عجيبة من عجائب الفن، ومعجزة من معجزات الأدب".
 
ويستمر النائب العام فى مرافعته لنحو ساعة أو يزيد لينتهي بقوله "إن الحجر على هذه النابغة هو حجر على الأدب العربى وعلى الأمة العربية وعلى العبقرية العربية، فلا تعدموها بسطرين من قلمكم، وهى عاقلة فلا تجعلوها بحكمكم مجنونة".
 
تنتصر المحكمة لمى، التى تقرر العودة لمصر بعد ثلاث سنوات عجاف فى لبنان، لكنها لم تكن مى التى عرفتها مصر قبلاً فآثرت العزلة بعد أن غمر الحزن نفسها المشرقة بحسب تعبير أديبتنا صاحبة الكتاب، لتنسحب من الحياة بهدوء وسكينة.
 
كانت مى بحسب الكتاب "مشحونة بحلم التنوير والتطوير ومأخوذة بالمعرفة ومزودة بكنوز من تراثنا ومن الآداب العالمية فى آن معاً".
الله عليك يا نوال، طوفت بنا في عالم "مي" المبدع والمقبض، وقدمت تجربة إنسانية ثرية ومحفزة، ولم تستطع سطور المقال أن تنقل للقارئ ذلك

اللحن الشجى الذى صاغته مكاتبات مى وجبران، ربما نفرد له مقالا آخر، لكننا سعينا للخروج من قتامة اللحظة التى دفعتنا اليها نخبنا المعاصرة، واستعير كلماتك وانت تقدمين للكتاب تصفين زمن احداثه "زمن كان للفكر فيه هيبة ، وللأدب والثقافة احترام وإجلال، وكان المبدعون هم صفوة

المجتمع ونخبته.. وليس رجال الأعمال، زمن كان الحدث الثقافى لا يقل فى أهميته عن الحدث السياسى، والمعارك الأدبية تجد من القراء ما لا تجده المعارك السياسية".
 
نقلأ عن البوابة نيوز

More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع