الأقباط متحدون - الوسطية البغيضة..
أخر تحديث ٠١:٠٧ | الثلاثاء ٢٦ اغسطس ٢٠١٤ | مسرى ١٧٣٠ ش ٢٠ | العدد ٣٣٠٢ السنة التاسعه
إغلاق تصغير

شريط الأخبار

الوسطية البغيضة..

بقلم منير بشاى

من المأثور عن الفيلسوف اللبنانى الكبير جبران خليل جبران قوله " أنا متطرف لأن من يعتدل بإظهار الحق يبـيّن نصف الحق ويبقي نصفه الآخر محجوباً وراء خوفه من ظنون الناس وتقولاتهم”.  وهو قول صادق وان كان  يبدو مستفزا ومناقضا لما تعودنا سماعه فى ارض النفاق.

 الوسطية اصبحت كلمة تلوكها الألسن فى هذه الأيام. وهى تتردد كثيرا للتعبير عن الاعتدال والاتزان والبعد عن المغالاة، وكل هذه خصال جميلة ان صدقت النوايا.  ولكن الوسطية كثيرا ما تستعمل ككلمة حق يراد بها باطل.  فالوسطية ليست ذات قيمة ان لم نعرف وسطية فى اى اتجاه.  وهى لا معنى لها ان لم نتأكد من وسطية لأى هدف.  والوسطية تفقد ايجابياتها ان تحولت الى الرياء لتحقيق المآرب، وعندما ينتهى مفعولها، وتنكشف حقيقتها، تذبل وتتساقط مثل اوراق التين لتظهرما تخفيه تحتها من عورات.

 الوسطية البغيضة تدفع اصحابها الى الأكل على كل الموائد، وارضاء جميع الناس.  ولا يحدث هذا فقط عندما تتغير الأوضاع، ولكن يمكن ان يحدث تحسبا من احتمال تغيير الأوضاع.  وأسوأ انواع الوسطية هى التى تظهر من اناس هم متطرفون قلبا وقالبا، ولكنهم يتظاهرون أمامنا بالوسطية لخداعنا، وهدفهم ان يكونوا اول من ينالوا منا عندما تحين فرصتهم.

 الوسطية البغيضة فى مفهوم بعض الناس هى امساك العصى من المنتصف.  المنتصف يسمحن لليد التحرك الى اليمين والشمال حسب ما تمليه الظروف.  ولذلك فخبراء الوسطية يعرفون كيف يتركون مساحة تسمح لهم بالتحرك الآمن فى كل اتجاه دون ان يظهروا بأنهم يناقضون انفسهم.
 من المواقف التى تعبر عن هذا المفهوم اذكر هذين المثالين، وبطليهما رجلان لا يشك احد فى اعتدالهما ولكنهما وجدا نفسيهما يدافعان عن قضية اضطرا معها الى التلاعب باللغة، لارضاء جميع الاطراف، وحفظ ماء الوجه.

 عندما كان فضيلة الشيخ الدكتور على جمعة يشغل منصب مفتى مصر، جاء مرة لزيارة العاصمة الأمريكية، وظهر فى ندوة اقامتها له صحيفة الواشنطن بوست.  ووجه له احد الصحفيين سؤالا يستفسر عن حكم الاسلام فى حد الردة.  وكان السؤال محددا: هل يستطيع المسلم ان يترك دينه الاسلامى اذا اراد؟ وجاء رد الشيخ قاطعا دون تحفظ: نعم يستطيع.  ولكن للقصة بقية.

 عاد فضيلة الشيخ الى مصر واعاد عليه البعض نفس السؤال فوجدنا جوابه باللغة العربية يحمل تغييرا فى بعض الكلمات.  قال الشيخ: "نعم يستطيع المسلم ان يغير دينه" ثم اضاف "طالما فعل ذلك فى السر ولم يبوح به لأحد".  واضح ان فضيلة الشيخ استطاع ببراعة ان يلغى باللغة العربية فى مصر ما قاله باللغة الانجليزية فى الولايات المتحدة.  لقد  استطاع ان يرضى الاجانب فى الغرب بتصوير ان الاسلام لا يمانع من تغيير الدين للمسلم، بينما استطاع ان يرضى المسلمين فى مصر بتأكييد ان المسلم لا يحق له ان يبوح بتغيير دينه، وهو شرط اساسى لأى تغيير حقيقى.  وحتى يخفف من حدة التناقض الواضح اضاف ان سبب عدم السماح للمسلم فى ان يبوح بارتداده هو حتى لا تحدث فتنة تؤدى الى تقويض اساسات المجتمع الاسلامى.  وما زلت لا افهم كيف يمكن لمسلم ترك دينه ان يقوض اساس المجتمع الاسلامى.  وهل الاسلام بهذه الهشاشة بحيث يتم تقويضه اذا تركه واحد او اكثر من الناس؟ واذا كان الاسلام يمكن ان يتقوض بهذه الطريقة فهل هى مشكلة من تركوا الاسلام؟

 ومع ذلك قام علماء الشريعة معترضين على وسطية الشيخ على جمعة ازاء ما هو فى نظرهم ثوابت الدين.  وكان منهم الدكتور نصر فريد الذى رد بالقول "المسلم الذى يفكر فى تغيير دينه يخضع للأحكام الشرعية الخاصة بعقوبة المرتد. وقد اتفق العلماء على حد الردة وتطبيق العقوبة وان اختلفوا على مدة الاستتابة وهل هى ثلاثة ايام ام طيلة العمر".

 المثل الآخر لفضيلة الشيخ أحمد الطيب، وهو رجل طيب اسما ومسمى. ولكن حتى هذا الرجل الطيب له حساباته التى تنعكس على تصريحاته الوسطية البغيضة. وكان تصريحه الخاص ببناء الكنائس مثالا كلاسيكيا لها، حيث قال: "يجوز بناء الكنائس في مصر بما لا يضر بالأمن القومى للبلاد.  فالشيخ الطيب رجل متعلم فى باريس ويعرف مدى ما يمكن ان يثيره تصريحه من ضجة عالمية لو قال انه لا يجوز بناء الكنائس. وهو ايضا رجل فقه اسلامى ويعرف حكم بناء الكنائس فى ديار الاسلام. ولذلك قرر امساك العصا من المنتصف وقال انه مسموح ببناء الكنائس ولكنه اضاف شرط عدم الاخلال بالامن القومى. ولا ادرى كيف يمكن لبناء كنيسة ان يخل بالأمن القومى للبلاد؟ محاولة التظاهر بالوسطية جعلت رجلين من أكبر الرجال أخلاقا ان يختلقا دعوى ان المسلم الذى يترك الاسلام يمكن ان يقوض اساس المجتمع، والكنيسة التى تبنى فى بلد اسلامى يمكن ان تضر بالامن القومى للبلاد، ولذلك فحماية المجتمع، والحفاظ على امن الوطن، لا يسمح بأيهما- وياللعجب!.

 لا احد ينكر ان بلادنا المصرية بل والبلاد العربية الأخرى مليئة بالرجال والنساء الوسطيين من اخوتنا المسلمين الأفاضل.  ولا احد ينكر انهم يمثلون الغالبية وان المتطرفين هم اقلية نسبيا.  وكلنا نمتدح فكرهم واعتدالهم الذى يظهر فيما يكتبون او يتكلمون.  ولكن المحك الحقيقى هو الى اى مدى يستطيع هذا التيار الوسطى المعتدل ان يقاوم التيار المتشدد اذا حاول ان يسيطر على البلاد؟

 الاجابة العملية تظهر فيما يحدث حاليا فى العراق، حيث استطاع تنظيم داعش الذى لا يزيد عن  ستة آلاف مقاتل ان يبكم ما يصل الى مليون ونصف مسلم فى الموصل.  لم نسمع لهذه الغالبية صوتا او احتجاجا، بل قيل انهم كانوا يحاولون مساعدة داعش فى الضغط على المسيحيين لترك دينهم.

 الوسطية ليست دائما الخيار الأخلاقى السليم.  فالوسط ليس دائما المكان الذى يقع فيه كل ما هو حق.  الوسط يمكن ان يكون محاولة للابتعاد عن اتخاذ المواقف المكلفة وتفادى القرارات الصعبة.  ولذلك يحاول الشخص ان يجعل خياراته مفتوحة.  والذى يتحكم في ذلك ليس المبادىء الثابتة ولكن المصالح الشخصية التى تتلون بحسب المواقف.

 الوسطية البغيضة يمكن ان تصبح نوعا من الرمادية التى لا جاذبية لها فهى تفتقر الى الوضوح الذى نراه فى اللون الأسود والنقاء الذى يمثله اللون الأبيض.  هى سلعة تحاول ان تكسب رضا جميع الناس، وتحظى باعجاب جميع الاذواق، وهى تعرض نفسها على انها "على كل لون يا باتستا".

 ولكن الوسطية البغيضة لا يمكن ان تخدع الناس الى الأبد. فشرابها الفاتر المائع سيرفضه الفم ويلفظه.  حقا عبّر عنه الكتاب المقدس " انا عارف اعمالك انك لست باردا ولا حارا ليتك كنت باردا او حارا. هكذا لأنك فاتر ولست باردا ولا حارا انا مزمع ان اتقيأك من فمى" رؤيا 3: 15 و 16.
عوضا عن الوسطية البغيضة اتمنى ان نرى نوعا من التطرف الحميد، هو تطرف المحب الصادق، الذى يحب حتى الموت.
Mounir.bishay@sbcglobal.net


More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter