عندما تشاهد لوحة أو جدارية ضخمة من على بعد خمسة سنتيمترات لن تستطيع مشاهدة التفاصيل ولا التدقيق فى الملامح ولا تحليل اللون والضوء والظل، أما إذا شاهدتها من على بعد خمسة أمتار فستستطيع استيعابها ورؤية تفاصيلها وألوانها والخروج بانطباع وقراءة جيدة لها، هكذا التاريخ، لا بد من مسافة وهدنة زمنية ووقت للتأمل حتى نستطيع كتابته، لذلك فالضجة الدائرة حول كتاب التاريخ الذى يتحدث عن ثورتى يناير ويونيو ضجة كنت أتوقعها خاصة فى ظل الاحتقان الموجود الآن فى المجتمع المصرى، وكنت أفضّل أن يصدر كتاب التاريخ ويُطبع دون ذكر للحدثين أصلاً، ولا يعنى هذا على الإطلاق عدم أهمية الحدثين أو إهمالهما أو موقفاً ضدهما، ولكن الرؤية التاريخية تستلزم التروّى والتأنى ومرور الوقت اللازم ووجود المسافة المناسبة لخلق الحياد الأكاديمى الكافى تجاه الأحداث السياسية لتتحول إلى أحداث تاريخية، الوقت نحتاجه للفرز، والكتاب المدرسى مختلف عن كتب التاريخ الصادرة عن دور النشر الخاصة المسموح لها بأن تتناحر وتتلاسن وتتشاجر وتخفى أحداثاً وتدس أخرى وتلقى الضوء وتلمّع وتجمّل ما تريد. ونحن، كقراء، أحرار فى قبول هذا ورفض ذاك، أرضية التوافق ومساحة الاتفاق فى الكتاب المدرسى متسعة أكثر، لا أقول لن توجد مساحة نقاش وتحليل تاريخى، ولكن هناك فرقاً بين التحليل ووجهات النظر وبين تكوين الميليشيات الطلابية المتناحرة. ظل كتاب التاريخ فى المدارس المصرية أداة نظامية ودمية سلطوية تُستخدم لتحويل الطلبة إلى أبواق و«فوتو كوبى» واستنساخ بشرى. درسنا، بل وحفظنا عن ظهر قلب، فى عهد عبدالناصر الميثاق، ودرسنا بيان 30 مارس، ثم ألغى هذا الفصل، ودرسنا ورقة أكتوبر وثورة 15 مايو التى صارت أهم من ثورة يوليو فى زمن السادات، ثم اختزلنا حرب أكتوبر فى الضربة الجوية فى زمن مبارك حتى نسى جيل كامل أن هناك أسلحة أخرى مثل المدفعية والمشاة والدفاع الجوى... إلخ.
السؤال الذى يفرض نفسه هو: لماذا السربعة فى إدخال أحداث لم تتجاوز عمر طفل مازال يتلعثم فى النطق والكلام، فما بالك بالقدرة على التعبير والتحليل؟! اتركوا بعض الوقت للتاريخ ليكتب بريشته الأحداث، ويغربل بغرباله دقيق الثقوب الظروف والملابسات، ويسلط الضوء بكشافه المبهر على الكواليس والأسرار حتى لا تشوش ذاكرتنا التاريخية المصابة بألزهايمر أصلاً.