منذ أن وعيت على أى شىء له علاقة بالسياسة على الإطلاق «وكنت فى نحو الثانية عشرة من عمرى» وأنا أسمع عن مفاجأة بعد أخرى، حتى لم أعد أتوقع من أخبار السياسة فى مصر إلا «المفاجآت».
المدهش أننى، منذ أن بدأ وعيى السياسى أيضاً، أسمع عن الديمقراطية وضرورتها «ثم أضيفت إليها فى وقت متأخر: الشفافية»، ولكنى أشهد بأنى لم أر الديمقراطية ولا الشفافية طوال حياتى وحتى الآن «باستثناء واحد سأذكره حالاً». فالمفروض أنه فى عهد الديمقراطية، يأتى إلى الحكم الحزب الحائز على أكبر عدد من الأصوات، ويتولى رئاسة الحكومة رئيس هذا الحزب، وهو رجل نعرف تاريخه جيداً، ونعرف نوع السياسة التى ينوى تطبيقها من قبل أن تجرى الانتخابات أصلاً، ثم متى جاء رئيساً للحكومة اختار وزراءه من رجال حزبه، وهم «أو كثيرون منهم» معروفون أيضاً جيداً من قبل الانتخابات، فيمكن أن نتوقع نوع السياسة التى سيطبقها كل وزير.
ولكن شيئاً من هذا لم يحدث قط طوال حياتى إلا مرة واحدة، واستمر أقل من عامين، أما قبل هذا وبعد هذا، فالحياة السياسية التى شهدتها لم تكن إلا مفاجآت.
فى ١٩٥٠ أجريت «لأسباب ليست واضحة لى حتى الآن» انتخابات حرة، لم يتدخل أحد لتزييفها، فنجح حزب الوفد، أكثر الأحزاب شعبية، وجاء مصطفى النحاس رئيساً للحكومة، وهو من كنا نعرف كل شىء عنه، وجاء النحاس بمجموعة من الوزراء المعروفين والمشهورين، فكنا نعرف ما يمكن أن يفعله طه حسين وزيراً للمعارف، وفؤاد سراج الدين كوزير للداخلية.. إلخ.
ثم يبدو أن أولى الأمر قد تبينوا أنهم ارتكبوا غلطة العمر بالسماح بانتخابات غير مزيفة، فأسرعوا بترتيب حريق القاهرة فى يناير ١٩٥٢ الذى أدى إلى عزل النحاس، ومنذ ذلك الحين وحتى هذه اللحظة «أى طوال أكثر من ستين عاماً» ونحن نعيش عصر المفاجآت، توالى علينا رجال لا نعرفهم كرؤساء للوزارات، أو على الأقل لم نتوقع بالمرة أن يصبحوا رؤساء للوزارات. واستمر الحال على هذا النحو بعد قيام ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢، وبلا انقطاع حتى قيام ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١، ثم استمر الحال على النحو نفسه حتى الآن.
لا ننكر بالطبع أن بعض المفاجآت كان ساراً، كقيام الضباط الأحرار بعزل الملك فاروق فى ٢٦ يوليو ١٩٥٢، وإصدار قانون الإصلاح الزراعى فى سبتمبر من العام نفسه، وقرار تأميم قناة السويس فى ١٩٥٦، وكإعلان الوحدة مع سوريا فى يناير ١٩٥٨، وقرارات التأميم فى ١٩٦١، وعبور الجيش المصرى إلى سيناء فى أكتوبر ١٩٧٣. لا ننكر أن بعض المفاجآت كان ساراً «إذ هل يمكن أن نتصور أن تكون كل المفاجآت محزنة؟» ولكن الذى أريد أن أقوله إنها سعيدة أم محزنة، كانت كلها مفاجآت: لم يتوقعها الناس بل فقط أُخبروا عنها من أصحاب السلطة، وكانوا لقبولها راضخين، فرحوا بها أو لم يفرحوا.
ربما كانت مصر «بلد شهادات»، كما يقال كثيراً، ولكن الأهم من ذلك بكثير أنها «بلد مفاجآت»، والمدهش أننا تعودنا على ذلك إلى درجة لم نعد معها نلاحظ ما يحدث، وأصبح كل رئيس يظن أن من الطبيعى، ومن حقه، أن يتعامل معنا كأطفال صغار، لا حق لهم فى المناقشة أو إبداء الرأى، بل عليهم فقط أن ينتظروا عودة الأب إليهم بمفاجأة أو أخرى.
كانت هزيمة ١٩٦٧ مفاجأة بالغة القسوة، وقد يقال إنها لم تكن من صنع الحاكم بل فرضت عليه فرضاً، وإنه فوجئ بها كما فوجئ الشعب كله، ولكن ما القول فيما حدث بعد الهزيمة من تعيين أنور السادات فجأة نائباً لرئيس الجمهورية، مع أنه لم يكن قطعاً أكثر الباقين من الضباط الأحرار شعبية أو كفاءة، والذى كانت نتيجته أنه أصبح رئيساً للجمهورية بعد وفاة عبدالناصر، ولمدة عشر سنوات؟ ثم ما القول فى تعيين حسنى مبارك فجأة نائباً لأنور السادات، وهو من لم نكن نعرف عنه شيئاً يذكر عندما جرى هذا التعيين، ثم عرفنا عنه بالتدريج أشياء ليست سارة تماماً، خلال حكمه لنا لمدة ثلاثين عاماً؟
كانت أخبار تعيين رؤساء الوزارات فى عهد مبارك، «عندما نتذكرها الآن» تأتينا كما لو كنا نفتح «ورقة يا نصيب»، ليس لدينا أى فكرة عما ننتظره منها، يطلب من رئيس الوزارة الاستقالة فجأة دون سبب معروف، ولا يقال لنا أى شىء عن السبب، ولا عن أسباب اختيار التالى له دون غيره. مرة يأتى لنا الرئيس بضابط كرئيس للحكومة، ومرة باقتصادى مغمور ليست له ميزة واضحة سواء فى المعرفة بالاقتصاد أو الخبرة بالسياسة، ثم يستغنى عن هذا ويأتى غيره وهكذا، دون أن يكون أمامنا إلا التخمين عما إذا كان رئيس الجمهورية يستلطف هذا أو يستثقل ظل ذاك، أو أن صندوق النقد الدولى قد عبر عن رغبته فى أن يأتى هذا رئيساً للحكومة فى هذا الوقت بالذات، أو أن يحل محله آخر.. إلخ.
ولكن المسألة لم تقتصر بالطبع على تغيير شخصية رئيس الحكومة، فالسياسات الكبرى تتغير، ونُخطَر نحن بتغييرها بطريقة المفاجأة، كإعلان سياسة الانفتاح فجأة، والتنكر التام لسياسات الستينيات الاقتصادية والعربية والخارجية، دون أن يكون قد بدا من مناقشات الناس أو الأحزاب أو الجمعيات أننا قد أدركنا ضرورة العدول عن سياسات الستينيات، فاستجاب رئيس الجمهورية لرغباتنا، «خاصة أن رئيس الجمهورية كان هو نفسه فيما سبق أحد منفذى سياسات الستينيات والمدافعين عنها»، ثم نستيقظ فى أحد الأيام لنرى صورة رئيس الجمهورية وهو فى زيارة للقدس، ويستعرض حرس الشرف الإسرائيلى ثم يخطب فى الكنيست دون أن يستشيرنا وهو ما سمى حينئذ بـ«المبادرة»، بالطبع هى «مبادرة»، ولكن من بالضبط الذى فكر فيها، وقرر اتخاذها، ولماذا اتخذت فجأة دون أن يؤخذ رأينا فيها؟
لم يتغير الحال للأسف بقيام ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١ ولا قيام ثورة ٣٠ يونيو، فقد استمر اختيار رؤساء الحكومات بالطريقة نفسها، تأتى إلينا أسماء مجهولة «أو شبه مجهولة» كرؤساء للوزارة، من عصام شرف إلى هشام قنديل «هل تذكرونهما؟» بالإضافة بالطبع إلى الدكتور الجنزورى فيما بينهما، دون أن نعرف بوضوح سبب اللجوء إليه دائماً فى الملمات؟ ثم يختار حازم الببلاوى الذى يعبر عن رغبته فى الاستقالة فلا يجاب إلى طلبه، ثم يطلب منه أن يستقيل بعد أسابيع قليلة دون أن يقال لنا أى تفسير، ويأتى رئيس وزراء جديد دون تفسير أيضاً، لماذا اختير دون غيره. ثم تعلن قرارات بمشروعات جديدة كبيرة لم يجر عليها النقاش الواجب، كمشروع تطوير قناة السويس، ثم الإعلان عن مشروع ممر التنمية فى الصحراء الغربية، تثور حوله تساؤلات عديدة، وعن نقل العاصمة من القاهرة إلى مكان ما فى الصحراء الشرقية.. إلخ، وكل هذا فى صورة «مفاجآت»، يطلب منا تأييدها على النحو الذى تم إعلانها به.
أثناء ذلك كله، أى منذ أن كنت فى الثانية عشرة من عمرى، وحتى اليوم وقد أشرفت على الثمانين، لم يتوقف الكلام عن الديمقراطية ومزاياها وضرورتها للحياة، وعن الشفافية المطلوبة والواجبة. فأتساءل عن مكمن الخطأ: هل أخطأت السمع، أم فى الفهم؟
نقلا عن المصري اليوم