بقلم: سمير حبشــــــــــــــى
إن الاحترام صفة جميلة وأساس الإخاء ، وركن أساسي في كل العلاقات الإنسانية بكافة أشكالها وتنوع أطيافها ، وعندما يفقد الإنسان احترامه لمن يشاركونه الحياة العامة ، نراه يبدأ فى الجور على حقوقهم ، بل وغالبا ما يتعمق عدم الاحترام حتى يتحول إلى كراهية وضغينة تؤدى إلى الجريمة ، وخاصة إذا اقترن هذا بمقومات تُشعل جذوة الكراهية ، مثل مفاهيم دينية تحرٍض على عدم احترام الآخر ، وكرمشة الخريطة الخاصة بالمكان بكل سكانه ، بأصابع من قضايا حزينة وضياع حقيقى لمكانة الإنسان الآخر، حتى يصبح مهمَشا بلا حقوق ، حتى ولو كان هو ابن هذا المكان الشرعى .. فالتوازن الحقيقى فى الحياة هو أن يستطيع الإنسان مجابهة تحديات الحياة اليومية ، مما يجعله قادرا على الإفضاء بالحقيقة الواضحة بقيمة وتاريخ أخيه الإنسان ، لأنه ليس هناك أسوأ وأكثر إسفافا من نفاق الإنسان لأخيه الإنسان ، وهذا النفاق لا يضيف شيئا ذا قيمة ، ولكن يزيد كم المصائب المتتالية التى يحملها قطار الظلم والعنصرية ، فى جميع المحطات اليومية ، كما فى حياة أقباط مصر .. هذا بالرغم من التضحيات المتوالية ، والدائمة من الأقباط ، ومؤسساتهم الدينية لأمهم مصر، ووطنيتهم التى لا يستطيع أن يجاريها أحد ، وحبهم الخالص لبلدهم ، الأمر الذى لايستطيع أن ينكره حتى الأعداء ، بل تغنَى به الحكماء فى مصر على مر الأزمان .. ولا يفوتنى ما قاله الدكتور طه حسين عن المؤسسة الدينية القبطية - أى الكنيسة - فى كتابه الرائد (مستقبل الثقافة فى مصر - 1938) أنها مجد مصرى قديم ، ومقوم من مقومات الوطن المصرى، ليس هذا فحسب بل أنها، وكما يذكر الجميع كانت فى فترة الإحتلال الرومانى لمصر (31 ق. م -. - 64م) رمزا للاستقلال القومى المصرى ، ورمزا للحفاظ على الشخصية المصرية فى مقابل غياب الاستقلال السياسى ، الذى كان فى أيدى الرومان .
والأحداث المدونة على صفحات تاريخ أقباط مصر كثيرة تحتاج لمجلدات ، وإذا حاولنا أن نتذكر بعض ثوابت الأحداث الوطنية للكنيسة أم الأقباط ، فنستطيع أن نتكلم عن ما حدث بين قيصر روسيا والبابا بطرس السابع ، فقد أرسل قيصر روسيا أحد أمرائه ليعرض عليه وضع الكنيسة القبطية تحت حماية القيصر، فما كان من البابا القبطي الذي استقبله بملابسه البسيطة المتواضعة، أن بادر الأمير الروسي بالسؤال: هل قيصركم هذا يموت مثل سائر البشر، أم أنه يحيا خالداً إلى الأبد ؟ ، فرد الأمير الروسي : طبعاً يموت شأنه في ذلك شأن سائر المخلوقات، فأجابه البابا : إذن لا أستطيع قبول هذه الحماية من ملك سيموت في يوم من الأيام ، ولكني أفضَل أن أبقى تحت حماية ملك الملوك ورب الأرباب الحي الذي لا يموت أبداً ، وعاد الأمير يحمل الرفض ، ولم يستطع كسر وطنية الكنيسة القبطية .. هذه هى مرآة التاريخ التى تسجل وتعكس الحقيقة واضحة ، وهى نفس المرآة التى سجلت للأخوان ومرسى العياط عمق الخيانة لمصر ومحاولة بيعها لأعدائها ، وشتان بين الموقفين .
وأيضا على الرغم من أن الفترة التى قضاها البابا كيرلس الرابع كبابا للإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية ، كانت لا تتجاوز 6 سنوات ، إلا أنها تعتبر واحدة من أكثر الفترات نهضة ووطنية ، ليس فقط فى الكنيسة ، ولكن ايضاً على المستوى الوطنى كله ، بعد ان إتخذ البابا الشاب الذى ارتقى كرسى الباباوية وعمره لم يتجاوز ال 39 ربيعاً ، الإصلاح كمبدأ أساسى لبطريركيته ، حتى لُقِب بأبى الإصلاح الكنسى فى العصر الحديث ، فكان اهتمام البابا كيرلس الأساسى بناء الشخصية المصرية ، من خلال التعليم فأنشأ المدارس والمكتبات، ففى البداية أنشأ مدرسة الأقباط الكبرى بالأزبكية ، والتى كان فيها التعليم مفتوحا لكل الشعب المصرى من مسلمين ومسيحيين ويهود، واستقدم لها أفضل المدرسين ، ووضع نظامها التعليمى على النسق الاوروبى ، فقد سبق طه حسين فى الدعوة إلى مجانية التعليم ، فجعل التعليم فيها مجانيًا ، وكان يمنح الطلبة الكتب والأدوات المدرسية مجاناً أيضا ، كما أنه أنشأ أول مدرسة للبنات فى حارة السقايين ، كانت بمثابة ثورة فى مجال تعليم الفتيات ، خاصة فى ذلك العصر التى كانت التقاليد فيه تحرِم خروج البنات من المنزل للتعليم ، وبذلك يكون البابا الشاب قد سبق أيضا قاسم أمين فى أفكاره عن تحرير المرأة وتعليم البنات، وكالمدارس السابقة التى أنشأها فقد كانت هذه المدرسة مفتوحة لكل بنات المجتمع المصري على مختلف دياناتهم .. ومع ضخامة كل هذه الأعمال الوطنية استقر رأيه على شراء مطبعة لطباعة ونشر الكتب فى مصر ، وكانت المطبعة الثانية فى القطر المصرى كله ، بعد المطبعة الأميرية التى اشتراها محمد على .
وما لا يعرفه الكثيرون أنه فى ذروة الثورة العرابية ، ووقت أن كان الخليفة العثمانى يطعن زعيمها أحمد عرابى من الخلف ، ويصدر إعلاناً بعصيانه وخروجه على الطاعة السلطانية، كانت الكنيسة بقيادة البابا كيرلس وكل الوطنيين المصريين ، يضعون أيديهم فى يد عرابى ضد الجيش الإنجليزى القادم لاحتلال مصر ، بحجة حماية الخديوى، وكمثل باباوات الكنيسة أثناء الحملات الصليبية لم يهتم كيرلس بديانة الإنجليز ، بل اعتبرهم مجرد غزاة طامعين فى خيرات بلاده ، لذلك نادى ابناءه بالتوحد خلف عرابى ومقاومة الغزاة الإنجليز. ووصل الدور الوطنى للبابا كيرلس الخامس ذروته ، فى جهاده ضد الإنجليز أثناء ثورة 1919 ، حيث أمر الأقباط بالمشاركة بالثورة مع إخوانهم المسلمين ضد الاحتلال الأجنبى ، وأمر بفتح الكنائس للشيوخ لإلقاء خطبهم من على منابرها ، كما أمر بذهاب الكهنة لإلقاء الخطب فى الأزهر ، وامتزج الدم الوطنى لا فرق بين مسلم وقبطى ، فالكل كان تحت راية وشعار واحد «يحيا الهلال مع الصليب»، وتطلَع الجميع وقتها لزعيم واحد هو سعد زغلول.
وفى تاريخنا الحديث ، لم يتوقف دور البابا الراحل شنوده الثالث على رفضه زيارة القدس إلا ويده فى يد شيخ الازهر، فقد كان له دوره البارز فى تدعيم الوحدة الوطنية ، حتى لُقٍب فى السنوات الأخيرة بأنه رمانة الميزان ، فى الحفاظ على الوحدة الوطنية فى مصر، كما قد منحته هذه المواقف لقب بابا العرب .. ولا ننسى أبعاد وطنية أقباط مصر عندما حُرقت كنائسهم ووقف بابا الكنيسة ليقول : لتكن بخورا فى حب مصر ..
إن تاريخ وطنية أقباط مصر طويل ولا ينتهى ، والذى جعل المستشار عدلى منصور يقول : كنت أود أن يكون حب جميع المصريين لمصر كحب المؤسسة القبطية لها .. ولكن .. وأعود وأقول آه من لكن هذه ، فهل احترم المصريون وقياداتهم الإسلامية هذا التاريخ المشرف ؟؟ !! .. أقول : للأسف - لا - بل يعيش القبطى غريبا فى وطنه ، محاطا بشعارات كاذبة من قيادات مصر على مر العصور ، وأصبح تكرار كلمات النفاق المبتذل والتى تجعل الإنسان يتأفف منها وكأنها صدى لفراش عاهرة .. كلمات أصبحت معادة لا تصلح إلا لباسا يخفى قبح القلب والسريره .. وفقط قادرة أن تزين مقدمة الوجه ، لتقلب الجد والحقائق إلى أكاذيب .. حتى بات يمسك الموت بعنق أفراح الأقباط ، وهذا ليس بموت ذويهم أو أقاربهم فقط ولكن أيضا بإغتيال حقوقهم .. فيعيشون هذه الأيام فى مسلسل خطف أبنائهم وطلب الفدية أو القتل ، وخطف بناتهم ونسائهم وأسلمتهم بالقوة ، والإستيلاء على ممتلكاتهم وتهجيرهم ، وكل ذلك يحدث بمساعدة السلطات المصرية ، والقيادات من أصغر شرطى حتى السيسى ، يصنعون أذنا من طين ، وأخرى للأسف من طين أيضا .. لقد أصبح فى قلب كل قبطى جرح دام ، وأخشى أن تتحول يوما العاطفة إلى عاصفة ، وأنا أُذكٍر قيادات مصر بأن ثورة يناير كان أول شررها هم أقباط مصر ، ولكن هذه المرة لن يترك المتربصون بمصر الفرصة ، ليضعوها أسفل أقدام دول العالم ..