على متن قطار مزدحم متجه من مانشستر إلى لندن، استوحت الكاتبة البريطانية جوان رولينج فكرة السلسلة الأشهر فى العالم «هارى بوتر»، لكنها لم يكن لديها قلم، فقررت أن تفكر فى القصة لمدة أربع ساعات كاملة مدة الرحلة، وظلت الفكرة حبيسة داخل مخ رولينج حتى وفاة والدتها، التى كانت تربطها بها علاقة شديدة وصلت إلى حد التوحد، فقررت نسيان أحزانها بالهروب إلى أحضان الكتابة، حتى إنها قالت إنها كتبت هارى بوتر فى اللحظة نفسها التى توفيت فيها والدتها.
لم تكن رولينج المثال الوحيد على نجاح شخصيات فى مجالات مختلفة بعد التعرض لأزمة ما، ففى الحياة نماذج وشخصيات كثيرة صنعتها الكوارث والأزمات، فهؤلاء أشبه بمن ينتظرون البراكين ليصنعوا من مادة «اللافا» البركانية تشكيلات فنية، لأنهم يُجيدون تحويل الكوارث إلى شىء آخر مفيد بقدر عظمة الكارثة.
أعتقد أن صديقى الكاتب هشام يحيى واحد من هؤلاء، فقد نجح فى تحويل حزنه على رحيل صديقه وابنه الروحى والزميل الصحفى وليد كامل إلى قصة تُروى للوفاء، فقربى من هشام يجعلنى أشعر بحجم حزنه على رحيل وليد، لأنه كان بمثابة الابن الحقيقى وليس الروحى كما نُردد، والقصة تبدأ بجلسة القهوة كل خميس مع هشام وبعض الأصدقاء، ورغم أننى لست من هواة الجلوس على المقاهى إلا أننى كنت حريصاً على ذلك لأستمع لحكاياته فى الصحافة والسياسة والفن والحياة، عبر رحلة حياة عمرها ١٠٠ سنة، ثلاثون منها هى عمر هشام فى الوسط الصحفى والثقافى، وسبعون عاماً هى عمر من نقل عنهم بعض حكاياتهم.
ورغم إلحاحى المستمر على هشام بأن يكتب هذه الحكايات ويضمها فى كتاب، إلا أنه كان زاهداً فى ذلك، ويكتفى فقط بالحكى، وكان يقول لى: «يا عم كبر دماغك، كتاب إيه بس يا عم محمد»، وتمر الأيام ولا تنتهى الحكايات، ولا يتراجع هشام عن رفضه إصدار كتاب.
ومن الحكايات التى لا تُنسى حكاية والده الأديب الراحل الذى ضحى بالأدب من أجل أسرته، وتمر الأيام ويأتى القدر بالحكاية الأهم فى حياة هشام يحيى، وهى حكاية رحيل وليد كامل، والذى عرفته وأحببته- رحمه الله- عبر هشام، وكنت أتابع كتاباته، وكان دائماً متعجلاً وكأن شعوراً ما بالرحيل المبكر يُطارده، فتجد أعماله الصحفية أكبر من عمره الصحفى، وقد جمعه بهشام حب الصحافة والقراءة، وقد رحل وليد كامل دون أى مقدمات، فجأة أصيب بالسرطان، ولم تمر أيام ورحل عن عالمنا ليترك جرحاً عميقاً داخلنا، وجرحاً أعمق داخل هشام، هذا منذ ما يقرب من عامين، بعدها يقرر هشام جمع حكاياته التى رواها لوليد فى كتاب يُهديه لروح صديقه، فقط من أجل تخليد ذكرى صديقه وابنه الروحى.
وقد اختار هشام يحيى «قبض الريح» عنواناً للكتاب تعبيراً عن الرحيل المفاجئ الأشبه بقبض الريح، مستعيراً نفس مقولة الموسيقار الراحل محمد عبدالوهاب عندما علم بخبر وفاة عبدالحليم حافظ، فقال «قبض الريح»، ويقصد أن الحياة تمر دون أن نشعر بها تماماً كمن يقبض على الريح بيده.
و«قبض الريح» يضم ٢٥ حكاية يرويها هشام بجرأة غير مسبوقة، كمن أراد أن يتبرأ من شىء ما، ورغم أن لغة الكتاب العامية إلا أنك عندما تقرأه ستشعر فقط أنه لا يكتب إلا بالأسلوب الذى انتهجه هشام يحيى.
كلمة أخيرة قالها الزميل الصحفى وليد كامل رحمه الله:
«فى البداية نقرأ الكتب، ثم نقرأ البشر، ثم نقرأ الحياة، وفى النهاية نموت دون أن نفهم شيئاً».
نقلا عن المصرى اليوم