بقلم د. سعد الدين إبراهيم
من الأمثال الشعبية المصرية، ذلك الذى يقول: «عدوك يتمنى لك الغلط، أما حبيبك فيُقرقش لك الزلط». لقد وجدت أن هذا المأثور الشعبى ينطبق تماماً على مشهدين مصريين تفصلهما سبع وثلاثون سنة. وقد عاصرت، وكنت شاهداً على المشهدين:
المشهد الأول: يناير ١٩٧٧، وكان بطله الرئيس المصرى الراحل أنور السادات، الذى كان قد قاد مصر والعرب فى حرب أكتوبر ١٩٧٣ (العاشر من رمضان)، والتى عبروا فيها قناة السويس، ودمّروا خط بارليف الحصين، والذى كانت إسرائيل قد شيّدته بعد انتصارها الكاسح على العرب (مصر وسوريا والأردن)، فى يونيو ١٩٦٧. وكانت حرب أكتوبر تلك انتصاراً واسترداداً للكرامة العربية. ولقّب الإعلام العربى أنور السادات بـ«بطل العبور».
ولكن بطل العبور هذا وجد نفسه، بعد أربع سنوات، مُجبراً على خوض معركة أخرى فى الداخل المصرى، وهى معركة دعم أسعار الغذاء والطاقة، والتى كانت تلتهم نسبة مُتزايدة من ميزانية الدولة، وتعوق قُدرة مصر، لا فقط على الاستثمار لتنمية اقتصادها، ولمواجهة الزيادة السُكانية السنوية (٣%)، ولكنها كانت أيضاً تعوق قدرتها على الاستدانة من الخارج (البنك الدولى وصندوق النقد الدولى). ووجد الرئيس الراحل أنور السادات نفسه مُجبراً على تخفيض دعم الدولة للسلع الأساسية، وفى مُقدمتها الخُبز والزيت والسُكر.
وبمُجرد إذاعة خبر تخفيض الدعم لتلك السلع انفجرت مُظاهرات عارمة فى كل المُدن المصرية، من الإسكندرية شمالاً إلى أسوان جنوباً، وهو ما عُرف وقتها باسم «انتفاضة الخُبز». واضطر أنور السادات إلى التراجع السريع عن قرارات تخفيض الدعم، حتى يهدأ الشارع المصرى.
وبتعبير آخر، لم يشفع نصر أكتوبر للرئيس السادات، حينما مست قراراته لُقمة عيش المصريين. وكان ذلك درساً للسادات وكل المسؤولين المصريين طيلة العقود الأربعة التالية، أو هكذا ساد الاعتقاد إلى مُنتصف هذا العام، ٢٠١٤. وهو ما ينقلنا إلى المشهد الثانى.
المشهد الثانى: وبطله الرئيس عبدالفتاح السيسى، الذى لم يخض ولم ينتصر بمصر فى أى حروب خارجية. ومع ذلك، فقد جرؤ على ما لم يفعله أى مسؤول مصرى طيلة نصف قرن، وهو تخفيض دعم السلع الأساسية، التى كانت قد أدت إلى انتفاضة الخُبز عام ١٩٧٧. ولم تؤد قرارات السيسى إلى أى انتفاضات أو حتى احتجاجات ملموسة. بل يكاد العكس أن يكون صحيحاً!!
من ذلك أن السيسى لم يكتفِ بتخفيض دعم العديد من السلع الأساسية، بل طالب المصريين بمزيد من البذل والعطاء لمشروعات وطنية عامة.
ولعل أبرز هذه المشروعات الوطنية العامة التى أعلنها الرجل هو مشروع قناة السويس الجديدة، الذى ينطوى على شق مجرى ملاحى مواز لقناة السويس الحالية، ولكنه ضعفها من حيث العُمق والاتساع. ويسمح، عند اكتماله بمرور الناقلات العملاقة، التى لا تتسع لها القناة القديمة. كما ستسمح القناة الجديدة الأوسع والأعمق بمرور كل الناقلات من كل الأحجام، فى الاتجاهين على مدار الساعة، بدلاً من الانتظار اثنتى عشرة ساعة، إما فى السويس جنوباً أو بورسعيد شمالاً أو فى البُحيرات المُرة عند الإسماعيلية فى الوسط.
وتُقدر تكلفة حفر قناة السويس الجديدة بستين مليارا (٦٠ مليار جنيه مصرى)، (حوالى ٩ مليارات دولار أمريكى)، ما يجعل من قناة السويس الجديدة، لا فقط نِداً لقناة السويس القديمة، ولكن أيضاً لكل من الهرم الأكبر (خوفو) وسد أسوان العالى مجتمعين.
وفضلاً عن أن مشروع قناة السويس الجديدة سيجلب لمصر ثلاثة أمثال العائد الذى تجلبه القناة القديمة، فهو سيُنشئ مجتمعات عُمرانية جديدة، يُقدر حجمها فى السنوات العشر القادمة بثلاثة ملايين من سُكان الوادى والدلتا، وهو ما يُخفف من الضغط السُكانى على المعمور المصرى (٦ فى المائة من مساحة مصر الكُلية، مليون كيلومتر مُربع).
والمُدهش فى مشروع قناة السويس الجديدة أن تمويله سيتم محلياً، من خلال الاكتتاب الشعبى، بأسهم وسندات تتراوح قيمة كل منها ما بين عشرة وألف جنيه، وهو ما أتاح لأغلبية فئات الشعب المصرى فُرصة الإسهام فى هذا المشروع الوطنى العملاق. وقد أقبل المصريون عليه إقبالاً شديداً، حتى إن البنوك المصرية الأربعة التى تم تخصيصها للاكتتاب (الأهلى، والقاهرة، ومصر، والإسكندرية) اضطرت لمُضاعفة ساعات العمل إلى الثامنة مساء (بدلاً من الرابعة)، استجابة للضغط الجماهيرى، خلال الأسبوع الأول لفتح باب شراء شهادات الاستثمار. وصرّح هشام رامز، رئيس البنك المركزى، بأن ذلك الإقبال هو ظاهرة غير مسبوقة فى تاريخ البنوك المصرية، وأنه إذا استمر مُعدل الإقبال بنفس وتيرة الأسبوع الأول، فسيتم تحقيق الاكتتاب المُستهدف (ستين مليار جنيه) فى أقل من شهر. والواقع أنه تم فى ثمانية أيام فقط!
إن هذه الظاهرة غير المسبوقة فى التاريخ المصرى لا يمكن تفسيرها إلا أنها حالة حُب وثقة بين شعب وقائده. وسيتوقف عُلماء النفس والاجتماع طويلاً لتحليلها وفهمها.
نعم، كان هناك شىء من نفس الظاهرة فى العلاقة بين الشعب والرئيس الراحل جمال عبدالناصر. حتى إنه لما هُزم هزيمة مُروّعة على يد إسرائيل، فى يونيو ١٩٦٧، ورغم اعترافه بالمسؤولية عن الهزيمة وتقديم استقالته، فإن الشعب خرج فى مُظاهرات مليونية، رافضة الاستقالة، ومعلنة الإصرار على التمسك به، وهو ما أذعن له عبدالناصر فى النهاية، فاستمر يقود البلاد إلى أن وافته المنية فى سبتمبر ١٩٧٠. بتعبير آخر، كان المصريون مُستعدين لقرقشة الزلط لعبدالناصر الذى أحبوه. وهو ما لم يفعلوه مثلاً لأنور السادات أو لحُسنى مُبارك، رغم الإنجازات الملموسة للرجلين.
ويُطلق عُلماء الاجتماع السياسى على هذه العلاقة الوجدانية نحو قائد أو زعيم بعينه تعبير «الكاريزما»، والتى رصدها وتوفر على دراستها عالم الاجتماع الألمانى، ماكس فيبر، فى أوائل القرن الماضى. وضمن ما علمنا إياه ماكس فيبر هو أن أتباع ومُحبى الزعيم الكاريزمى يُدمنون توقع الإنجازات الخارقة للعادة منه. وهو ما يضع على كاهل عبدالفتاح السيسى مسؤوليات جِساماً. وحسناً فعل الرجل بتخليص المصريين من الكابوس الإخوانى. وحسناً فعل أيضاً بتدشين مشروع قناة السويس الجديدة.
ثم ماذا بعد، حتى يُحافظ السيسى على قوة الدفع الكاريزمى الذى أدمنه المصريون نحوه؟
وعلى الله قصد السبيل
نقلأ عن المصري اليوم