بقلم د. جلال أمين
لا يكاد يمر يوم دون أن أرى أو أسمع مثالاً جديداً يؤكد أن حياتنا الثقافية مليئة بالظلم، الصحف والمجلات مليئة بمقالات وعواميد لكتّاب يوصفون أحياناً بالكتّاب أو الأدباء الكبار، دون أن يستحقوا فى رأيى هذه الأوصاف، بل دون أن يستحق بعضهم أن يستكتبوا أصلاً فى الصحف والمجلات، ولكن مع تكرار ظهور أسمائهم وإسباغ هذه الأوصاف عليهم، يصدق الناس أنهم بالفعل كتّاب أو أدباء كبار.
بعض هؤلاء الكتّاب ربما كتب فى يوم ما فى حياته، منذ أربعين عاماً أو أكثر، قصة جيدة «يعلم الله كيف أوحى إليه بها»، ولكنه توقف عن الإتيان بمثل هذا منذ ذلك الوقت، بل من هؤلاء الكتّاب من لا يحسن، فى رأيى، منذ نعومة أظفاره أن يكتب أفضل من موضوع إنشاء قد يرضى عنه مدرس عادى من مدرسى اللغة العربية، ولكنه ظن بحسن نية، وبسبب قلة ما يقرأ، أو بسبب عدم إكماله تعليمه أو للسببين معاً، أن هذا هو أقصى ما يمكن أن يحققه أديب كبير، فاستمر على هذا النحو، ولكن أسعده الحظ ببعض النقاد الذين اعتنقوا مثله مبادئ يسارية فظنوا أن كل كاتب يسارى هو أيضاً كاتب موهوب حتى يثبت العكس، فكتبوا عنه وأثنوا عليه، وأصبح بذلك كاتباً كبيراً.
ثم تأتيك أخبار بالإعلان عن جوائز الدولة السنوية، فإذا بهؤلاء وأمثالهم يفوزون بأرفع الجوائز. من الجائز أحياناً أن يظهر فيما بينهم، على استحياء، أديب أو شاعر أو موهبة حقيقية وإنتاج يستحق التقدير، مُنح الجائزة إما بسبب شعور مانحى الجائزة بالحرج الشديد لو لم يحصل هذا على الجائزة، أو لإضفاء قيمة على الحاصلين على الجائزة دون استحقاق.
هذه الحالة مؤلمة لأكثر من سبب فهى فضلاً عما تنطوى عليه من ظلم، تعطى توجيهات سيئة للشباب من المثقفين، إذ يطلب منهم أن يشتركوا فى تقدير كتّاب يشك هؤلاء الشباب أصلاً فى استحقاقهم لهذا التقدير، فيقع الشباب فى حيرة شديدة، أيهم يصدقون: العالم بأسره أم ضمائرهم؟ ويٌجْبر شباب المثقفين على كتم الغيظ أو على أن يسيروا مع الركب طلباً لتحقيق نفع خاص على حساب ضمائرهم، أو يأساً من أن يتحقق العدل، ويزداد الشعور بالإحباط لدى شباب المثقفين وكبارهم على السواء عندما يستمر هذا الحال على مر العهود، وفى ظل حكومة بعد أخرى، حتى يستقر فعلاً الاعتقاد بأن العدل فى هذا البلد محال.
فى الوقت نفسه، تقع فى يدى بين الحين والآخر، أعمال أراها جيدة جداً، وتستحق التقدير بلا شك، فإذا بصاحبها يعجز عن أن يجد ناشراً يقوم بنشرها، فالسوق راكدة، واسم المؤلف مجهول، ولا ينتظر من وسائل الإعلام أن تلتفت إليه مهما كانت جودة الرواية لأن حالة النقد الأدبى فى بلادنا مليئة بدورها بأمثلة الظلم.
فأصارح القارئ بأنى أشعر بالإحباط الشديد تجاه حالة النقد الأدبى فى مصر، ففضلاً عما أشرت إليه حالا من تحيز بعض نقاد الأدب عندنا لبعض الكتّاب لأسباب سياسية وأيديولوجية لا علاقة لها بتقييم الأدب، نلاحظ أيضاً ميلاً قوياً إلى المجاملة من جانب النقاد لبعض الكتّاب بالحق أو الباطل، أو فى أحيان أخرى خوفاً من اتخاذ موقف بالمديح أو الهجاء، فإذا بمقال النقد الأدبى يتحول إلى وصف فاتر للكتاب دون الإفصاح عن رأى الناقد، أو تلخيص ممل للرواية لا يفيد لا القارئ ولا المؤلف.
قد يقول البعض: ومن أنت حتى تتصدى لنقد الكتّاب المشهورين أو نقاد الأدب من الأساتذة وحملة الدكتوراه فى النقد الأدبى؟ وأسرع بالاعتراف بأنى لا أشتغل بالنقد الأدبى ولا أحمل شهادة فى هذا الفرع، بل أعترف أيضاً بأنى بالتعبير عن رأيى فى بعض الكتّاب المشهورين قد لا أعبّر إلا عن رأى شخص واحد قد لا يقرّه معظم القراء، ولكنى أصارح القارئ أيضاً بأن الغضب والغيظ قد فاضا بى، فقررت أنه قد لا يكون من الخطأ الإفصاح عما يمتلئ به قلبى، على أمل ألا أكون فى هذا أعبّر عن رأى شخص واحد بل عن رأى كثيرين، فإذا ظهر أن الأمر غير ذلك فالخسارة ليست كبيرة.
إنى أقرّ وأعترف بأنه فى تقييم الأدب يوجد عنصر شخصى وذاتى جداً، وأن الأذواق تختلف، وأن من الصعب إقناع شخص بأن رأيه فى عمل أدبى ما رأى خاطئ. نعم، ليس الاختلاف حول العمل الأدبى مثل الاختلاف حول البحث العلمى، ولكن هذا الاعتراف لا ينهى القضية، وإلا فلماذا نشأ فرع من المعرفة «بل أكاد أقول (فرع من العلم)» اسمه النقد الأدبى؟ لماذا يمكن الاتفاق على أن هناك شروطاً يجب توفرها لكى يعتبر العمل الأدبى جيداً؟ كأن يكون أسلوب الكتابة جزلاً وواضحاً، «بل مفهوماً على الأقل»، وأن يتوافر عنصر التشويق، وأن يقتنع القارئ بصدق الكاتب، وأن يتناول العمل قضية مهمة، إنسانية أو اجتماعية أو نفسية، وليس قضية تافهة.. إلخ. هناك إذن ما يمكن الاتفاق عليه «ولو ببعض المشقة»، ومن ثم فمن الممكن أن يصدر كل منا حكمه آملاً فى إقناع الآخرين، وإن كان بعضنا أقدر بالطبع على ذلك من غيره، «ومن ثم نصادف مستويات مختلفة من نقاد الأدب»، أما الحصول على الدكتوراه فى النقد الأدبى فليس فى رأيى معياراً كافياً «بل ولا حتى جيداً» للتمييز بين النقاد، مثلما الحصول على الدكتوراه فى أى فرع من فروع العلم ليس كافياً بدوره للتمييز بين العلماء.
من المهم بعد ذلك أن نلاحظ أن الحال فى مصر لم يكن دائماً كذلك، إن هناك طبعاً درجة من الظلم فى الحياة الثقافية فى أى بلد وأى عصر «وهناك أمثلة شهيرة لكتب عظيمة رفضها الناشرون فى البداية، وأمثلة كثيرة حصلت على إعجاب واسع دون أن تستحق ذلك»، ولكن ما أعرفه وما قرأته عن الحياة الثقافية فى مصر فى الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين، يجعلنى أجزم بأن درجة الظلم فيها كانت أقل منها الآن. نعم، لقد تعرض بعض الكتّاب للإهمال والظلم فى عصر تسليط الضوء كله على طه حسين والحكيم والعقاد من الأدباء، وعلى محمد عبدالوهاب والسنباطى وزكريا أحمد من الملحنين، وعلى يوسف وهبى والريحانى من المسرحيين والممثلين.. إلخ، ولكن ذلك العصر لم يشهد ما تشهده مصر الآن من تكبير الصغار وتصغير الكبراء، كما أننا نعلم وجود نقاد عظام فى ذلك العصر، مثل العقاد والمازنى، وسيد قطب عندما كان متفرغاً للأدب، ومحمد مندور ولويس عوض، لا يدانيهم نقاد اليوم فى الحكمة أو التجرد عن الهوى، وكذلك كان منح الجوائز من الدولة للأدباء فى ذلك العصر أكثر عدلاً منه الآن، ما الذى حدث فى مصر فى نصف القرن الماضى لكى يزداد الظلم فى حياتنا الثقافية إلى هذه الدرجة؟