الأقباط متحدون - محمد ناجي.. موت لا يشبه سواك
أخر تحديث ٠٥:٤٠ | الثلاثاء ٢٥ نوفمبر ٢٠١٤ | ١٦هاتور ١٧٣١ ش | العدد ٣٣٩٦ السنة التاسعه
إغلاق تصغير

شريط الأخبار

محمد ناجي.. موت لا يشبه سواك

الكاتب الراحل محمد ناجى
الكاتب الراحل محمد ناجى

د. أحمد الخميسي
كأنك لا تقرأ ما أكتب، كأني لا أكتب ما أكتب، كأني جالس أمامك الآن أرى في عينيك ذلك اللوم الخفيف الرصين، والأسى الذي يعرفه إنسان موقن أنه راحل عما قريب.

بعينيك ذلك العتاب الصامت، عتاب كاتب كبير لم ينل حقه من التقدير الذي يستحقه في ظل قانون عام أشرت إليه أنت في روايتك " الأفندي" حين كتبت على لسان إحدى الشخصيات تخاطب صديقا : "سأدبر لك أمر من يكتب باسمك. بألف أوبألفين تصبح مشهورا؛ مفكرا أو روائيا أو شاعرا.. ادفع وافعل ما تشاء".

لم يكن عتابك موجها لأحد، ولا هو متعلق بشخصك، لكنه عتاب على غد لا يأتي، وأمل لا يتحقق، وحياة لا يسعها أن تكسر القانون العام الذي يصطنع الكتاب في ساعات قليلة، ويشعل لهم أضواء المنصات والاحتفالات واستديوهات اللقاءات التلفزيونية، ويقدم أعمالهم من نوع " جوزيني وريحيني"، و" هات لي معاك ترمواى" باحتفاء وجدية يكتنفها مديح كبارالنقاد.

في حينه كتب عنك على الراعى وقال إنك ساحر الرواية، لكن في حينه كان مازال لدينا نقاد من طراز على الراعي. مكنتك حياتك في سمنود بلدك من التعرف إلي هموم الفلاحين وأمانيهم، ومكنتك خدمتك في الجيش أربع سنوات من تلمس بطولات الجنود في الجيش والاستعداد المذهل للتضحية والفداء، ثم خبرت في المدينة الكبيرة كل ذلك النفاق وحرب تكسير العظام بين الكلمة الموهوبة وفيالق المرواغة والكذب. كنت صحفيا في "العالم اليوم" ورفضت أن تكتب في الصحافة لكي لا يجرجرك ذلك إلي دائرة أخرى، مع أن هناك أدباء شقوا طريقهم بفضل الصحافة ولأنهم" صحفيون" لا أكثر. كأنك لا تقرأ ما أكتب، كأني لا أكتب ما أكتب. كأني جالس أمامك نثرثر وأنت تطلب من حفيدك الصغير ضاحكا أن يعد لنا الشاي. أقول لك " سبحان الله . يشبهك يامحمد الخالق الناطق"، ترفع حاجبيك بدهشة كأنما تود لو تحميه من هذا الشبه، من غربة هذاالشبه ، من أن يكون أنت.

عندما  قرروا أخيرا – وأنت مريض – أن يمنحوك جائزة التفوق في الأدب عام 2013، وكلمتك في باريس لأهنئك، وجدتك غير آبه، لم تدعي أنك غير مهتم، كلا ، بل لم تكن مهتما فعلا، وبدلت الحديث إلي أحوال مصر وأخبارها. وحينما سألتك عن صحتك قلت إنك تنظر إلي " ناجي المريض" كأنه شخص آخر تتابعه بعينيك، وتراقبه، ربما تكتب عن ذلك " المريض" شيئا يوما ما.

الجائزة كانت من حيث التوقيت قريبة من الجائزة التي منحوها لفاروق عبد القادر وهو في غيبوبة، غير قادرعلى رفضها ، وغير مستمتع بقبولها. كانت الجائزة أقرب إلي تبييض وجه الدولة وتبرئتها إزاء كاتب رفض بدأب أن يكون جزءا من أجهزتها الثقافية، وعرى دوما القانون العام" إدفع وافعل ماتشاء" وتتبع حركة ذلك القانون ممتدا من حقل الأدب إلي الاقتصاد والسياسة والأخلاق وكل شيء. وكان لدي دوما ذلك الشعور القوي بأنك "غريب"، لكن من أين لي أن أعلم أنك قد ترحل وحدك في الخارج بين وجوه غريبة وأصداء لغة غريبة في حجرة بمستشفى بعيدة جدا عن الوطن الذي شغلك حتى النهاية؟.

لم يكن إصرارك على الكتابة خافيا على أحد، لكني لم أتصور أن يبلغ هذا الاصرار ذلك المدى إلي درجة أن تكتب وأنت على سرير المرض عدة روايات " سيدةالماسنجر"، و" سيد الوداع"، و" قيس ولبنى"، وأخيرا "ذاكرة النسيان".

لم أكن أتخيل أن بوسع المرء أن يتمتع بتلك الإرادة الفولاذيةليبدع وهو على سرير المرض بكل تلك الحيوية وذلك التدفق، والموت على بعد أمتار منه.أرسلت إلي " ذاكرة النسيان" قرأتها وكتبت لك تعليقا على ذلك العمل البديع : " ما إن بدأت القراءة حتى تذكرت بقوة أنك شاعر، أن الشعر كان البداية عندك. هناك أعمال أدبية لا تستطيع أن تقوم بتشريحها ، لأن بها قدرا كبيرا من الحياة بحيث أن الخوف يداخلك حين تفكر ولو مجرد تفكير في تقطيع تلك الحياة لتفسيرها، كما يخشى الانسان تقطيع بدن امرأة حية ليكتشف سر جمالها".

ثم داربيننا نقاش في عدة رسائل حول عبارة في النص هي " ياسيدة الحاناة". قلت لك " لعله خطأ في الكتابة إذا كنت تقصد الحانة أي الخمارة؟". فقمت بالرد علي وقلت لي " إن حاناة أيضا صحيحة". وبحثت في المعاجم حتى وجدتها. كانت لك لغتك الخاصة بك، وحدك، لغة الشاعر التي لا تتكرر. اللغة الدافئة المريرة التي امتازت بها رواياتك، فصحى تتنفس بروح اللغة الدارجة الشعبية أي بكل ما تنطوي عليه صياغاتها من اعتقادات وحكمة وخيال. أقرأ ذلك في روايتك " ليلة سفر" حين تقول: " زنق نفسه"، و" خايلتني صورتك"، وهي لغة تظل محكومة بإيقاع الشعر حتى في أبسط الجمل مثل قولك "أجره صدقة ووجوده بركة". ولم يكن استلهامك تلك اللغة لمجرد تزيين الرواية من الخارج بالموروث الشعبي، بل لأنك تدرك أن ذلك الموروث مفتاح لفهم الشخصية المصريةالتي بلورت نفسها في صياغاته كقولك" الكلام فانوس المجالس". قلت لك كثيرا إن رواياتك مشبعة بهموم مصر الحقيقية.

وأنك رصدت التحولات الكبرى الاجتماعية والاقتصادية التي تمت على خلفية حرب 1967، و1972، وحتى الحرب على العراق، وكانت الأحداث التاريخية الكبرى تلون طبائع الشخصيات ومصائرها. في " العايقة بنت الزين " تجلت أمامنا مأساة " مباهج" التي كانت يوما ما من زعيمات الطلاب وانتهى بها الحال إلي كتابة قصص سخيفة في الأوقات المتاحة بين عشيق وآخر،ثم حسنى عبد الجواد الذي طالما شغلته الحتمية التاريخية وانتهى به الأمر إلي كونه صاحب مطعم. وشخصية عسراوي المذهلة الذي فقد الاتجاه وأصبح يرى أن المهم "الحركة" بغض النظر عما إن كان المرء يتقدم إلي الأمام أو يتراجع إلي الخلف! في روايتك " الأفندي" قدمت لنا موت المثقف الذي صار مكتفيا " بالوجود" وليس بالحياة ، ويقول تعبيرا عن ذلك " إنني أكتفى بنفسي ، أتحسس وجودي،ولا يشغلني شيء آخر".

أية نماذج وأية قصص وأية أعمال أدبية لاتتكرر قمت بإهدائها لنا ؟ أي عالم كبير هذا الذي تركته لنا؟ وأية خسارة فادحة حين تتركناالآن وأنت محتشد بكل ما في خيالك الإنساني الجميل النبيل من مخطوطات ونماذج وبشر ومصائر؟. كل " ألفاظ الوداع مرة، والموت مر، وكل شيء يسرق الإنسان من إنسان". هذاصحيح.

إلا أن الموت يكتسب مرارة خاصة حين يرحل الإنسان مدركا بأسى أن القانون العام مازال ساريا، متوحشا، يرفع كل تفاهة إلي السماء ويشيح بوجهه عن كل موهوب حقيقي، وأن النظام الذي كان يعتقل الكاتب أو يقطع رزقه صار يكتفى الآن بسلاح بارد خاص اسمه" التجاهل"، سلاح لا يبقى أثرا في بدن الضحية بحيث لا يمكن معاقبة أحد، أو توجيه الاتهام إلي أحد، بحيث لا يبقى سوى ذلك اللوم الخفيف الرصين في نظراتنا. كأنك لا تقرأ ما أكتب، كأني لا أكتب ما أكتب، كأني جالس أمامك الآن أرى كل شيء: الحقيقة ، والأمل، والصبر، والإبداع الذي لا يتكرر.


More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع