الأقباط متحدون - فى شبر ميَّه!
أخر تحديث ٠٧:٠٤ | السبت ٢٩ نوفمبر ٢٠١٤ | ٢٠هاتور ١٧٣١ ش | العدد ٣٤٠٠ السنة التاسعه
إغلاق تصغير

شريط الأخبار

فى شبر ميَّه!

مفيد فوزي
مفيد فوزي

أنهار من الكلمات ندبّجها ونكتبها وتحمل فى ثناياها ألماً وأملاً. نكرر كلماتنا ولا نمل التكرار لأننا شعوب الكلام بدون فعل.. إلا قليلاً. نحن شعوب (آخر لحظة) قبل رفع الستار بدقائق. يفاجئنا شهر رمضان كل عام، مع أننا شعوب تعلق على حوائط بيوتها نتائج ملونة مطرزة بحِكم وأمثال. تفاجئنا الأمطار وكأننا نعيش صيفاً دائماً لا شتاء بعده. ستفاجئنا السيول بعد قليل، وستأتى محملة بالريح والثلج والمطر وستدمر كل ما تطوله من أرض وبشر وكأننا نجهل مواسم زيارة السيول غير المرغوبة، وربما تصورنا أن السيول اختراع لم نسمع عنه من قبل يثير الدهشة ونخيف به الأطفال!

يأتى المطر رذاذاً وكأنه يختبرنا ويجس نبضنا، يختبر قدرتنا على المواجهة، ولأننا فراعنة وإحنا اللى خرمنا التعريفة ودهنا الهوا دوكو، لا نبالى ونتخيل أننا قد المطر وقدود. الغلابة يحتمون من السماء بالسماء، يشكون ويبكون ويصلون. المسؤولون ينتظرون وقوع البلاء ويصرّحون ويقسمون وهم يكذبون ويبررون، وفى وقت من الأوقات، كنت أتعاطف مع المسؤول لأنه بلا إمكانيات، ثم ثبت لى أنها شمّاعات نعلق فوقها آليات الفشل المدوىّ فى المواجهة. أنا من الذين لا يطيقون سماع النكتة أكثر من مرة، وفى المرة الثالثة لا أضحك، وفى الرابعة تعلو جبهتى تكشيرة وأشكو من الاضطهاد.

حكاية سقوط المطر فوق العاصمة وبعض المحافظات نكتة سخيفة يصل سخفها إلى حد التدنى فى مواجهة الشلل العام، وتأخذنى الذاكرة إلى أكثر من نصف قرن وحال شوارعنا كما هى دون تطوير أو تحوير، ويأتى وزير للمرافق وراء وزير، ويأتى محافظ وراء محافظ، والحال كما هى والشكوى من الشلل الذى تجلبه الأمطار كما هى، و(يحيا الثبات على المبدأ)!

كم عانت مصر من تراكمات السنين!. بين مصر والتراكمات (عمار كبير). تقوم فلسفة التراكم على الإهمال عن قصد أو دون قصد، وقد (نفور) لحظة ونقرر ونتحمس ونعتلى المنابر وتظهر عروق رقابنا من الانفعال، ثم (نخور) ونقعد ونفقد الحماس. ومن هنا يأتى تراكم السوء، وقد جرّبنا هذا فى الحرب على الأمية، وانهزمنا وانتصرت الأمية! ولأننا بلاد (الكلام الكبير) و(رقبتنا يا ريس) نرفض التفكير المستقبلى ونقيم فى اللحظة الآنية وكأن عقارب الزمن توقفت ولن تأتى بعد ذلك لحظات. وسينتحر الزمن فى ميدان عام! تكون النتيجة الغرق فى شبر ميّه، كما يقول الحِس الشعبى، الذى يترجم أقوالنا العنترية وأفعالنا الغائبة والغرق فى شبر ميّه، ينسحب على حربنا على (الأمية)، وعلى (مخدرات السائقين)، وعلى (انهيارات عمارات) بأسمنت مغشوش وصفيح يُدعى أنه حديد، وحلاق ينتحل صفة مهندس مقاول!

زمان، كنت أسمع الصبايا ينشدن (يا نطره رخى رخى على قرعة بنت أختى)، وتغير الزمن وأصبحت (النطره) تحدث شللاً فى المدينة.

والحس الشعبى مرآة حقيقية للعادات والطقوس، واسألوا الراحل د. سيد عويس الذى كان يقيم طويلاً على ضفاف شرايين المصريين، يراقبهم ويعثر على العشوائية والتدنى والتطوع والتذاكى والتخابث والجدعنة. ويعثر على كلمات الرجاء على الأضرحة والمقامات للأسياد والمشايخ. ويعثر فى الوقت نفسه على الهمم التى تطاول السحاب ويعثر على من قال: (علشان ما نعلى ونعلى ونعلى لازم نطاطى نطاطى نطاطى)، ومن قال (وقف الخلق ينظرون جميعاً.. كيف أبنى قواعد المجد وحدى). كان سيد عويس عميق النظرة حين وصف هذه (الضفيرة) النفسية المتناقضة والمحيرة بـ(الهتاف الصامت)!

ولأن الحس الشعبى أفضل تراجم الشعوب، يقول الحس المصرى (علقة تفوت ولا حد يموت)، نتصور أن ما أحدثه المطر من ضحايا وحرائق وتدمير مجرد (علقة تفوت).

دخلنا (ملف الإهمال) برجلينا وصرنا (أسطوات)، واستحق لقب (إرهاب) يصف الإهمال. هل لأننا من شعوب الكسالى والحيارى وضاربى الودع ووشوش الدكر؟!، والمتأمل لثقافة الإهمال يكتشف أنها بلادة منقطعة النظير وعمى بصيرة وضعف قدرة على استيعاب ما جرى بالأمس. المهمل لا يدرى أنه مهمل إلا أمام القضاء، حيث تثبت التهمة، وحين نواجه مسؤولا بالإهمال، نلجأ لاتهام آخر، كتحميل واحد تانى الشيله!. محال أن يعترف مهمل بإهماله. وفى اليابان ينتحر المسؤول ويكتب نهايته، وفى بلادنا يبحثون له عن منصب آخر، وقد يترقى! إن إهمال تلميذ فى الإعدادى (محدود) ولا يضر سواه، وإهمال مسؤول (غير محدود) ويضر وطنا بأكمله، هذه بدهيات فى (فقه الإهمال). إن إحدى أبجديات هذا الفقه هى (ضمور المسؤولية) وهشاشة عظامها، والمسؤول فى هذه اللحظة يسميه أولاد البلد (الجاكته)، أى مجرد جاكيت معلق فوق شماعة، صاحبها غير موجود! يحكى لى التوانسة القدامى من جيل أبورقيبة أنه كان يفاجئ الوزراء مبكراً فى مكاتبهم!! أحيانا نبدو بأدمغة مسدودة المسام وعاجزة عن التفكير، وأحياناً ببالوعات مسدودة المسام، عاجزة عن تأدية وظيفتها، وهى تصريف مياه الأمطار من البالوعات عبر مواسير غير موجودة!

نحن نغرق فى شبر ميّه ويتحول المرور إلى (بالوظة) سيئة الطبخ، ونحصد كوارث، وتسقط بيوت هى آيلة للسقوط، وتسير السيارات فوق أرض كالزيت (تاتا، تاتا) ويضيع الوقت فى الزحام الممطر لأننا أساتذة فى فن إهدار الوقت.

ومثلما يقتلنا الإهمال وندفنه حياً، يقتلنا الإهمال ونحن أحياء نرزق، ربما لم يتعرف الإهمال على وجه (العقاب) الحقيقى، فلم نعاقب (جالبًا للمخدرات) بالإعدام لأنه قاتل لوطن، ولم نعاقب غشاشاً محترفاً للدواء لأنه قاتل لوطن، ولم نعاقب بالموت من يفخخ قنبلة بجوار حائط مدرسة أطفال لأنه قاتل أطفال وسارق فرحة الأمهات، نحن شعوب الموت الرخيص، إلقاء متعمد من فوق سطح، أو تثبيت وقتل بالآلى، أو بسيارة مغشوشة الإطارات. أو ببلاعة مسدودة نسوا تسليكها أو بلاعة كبيرة سرقوا غطاءها وتفتح فاها للأطفال!

نحن الشعوب الشاطرة بامتياز فى الفهلوة، لأن القاعدة تقول (إن النشال أذكى من فريسته)، ولذلك يشكل مسجلان خطر (لجنة مرور لتحليل المخدرات والاستيلاء على أموال السائقين)!

هناك شوارع فى بعض المحافظات- من باب الفهلوة- بدون بالوعات، وشركات المقاولات التى تستكمل إحلال وتحديث شبكة المجارى تخالف كراسة الشروط. لقد اعتدنا النوم حتى توقظنا الكوارث، نصحو مذعورين ونفتش فى دفتر الحلول على حل سريع كقُرص إسبرين يعالج (الصداع النصفى)! نفكر بعد فوات الأوان، ويموت بشر وينقلب أتوبيس، ولم تخرج سيارة شفط المياه إلا بعد (جثث الضحايا).. ونحن البلاد الوحيدة الفريدة التى يقود فيها طفل سيارة وهو مبتور اليد! والسؤال الذى يثقب الرأس هو: هل إنسان العالم الأول من طينة أخرى؟ هل- أيها العالم الكبير د. أحمد مستجير- الشعوب جينات؟ لماذا فى أوروبا إذا سقطت الأمطار، حتى بوحشية وربما لأيام، لا تتوقف الحياة ولا تتعطل ولا تذبح الوقت بسكين الإهمال؟ لأنهم هناك- مش هنا- يحفظون عن ظهر قلب مواعيد الطقس ومواسم الأمطار، مثلما يحفظ البحارة مواعيد النوات. إنهم فى أوروبا يقرأون السحب بعناية ويحتشدون قبل المطر وبعده، كلمة (يحتشدون) هل هى كلمة عربية وموجودة فى قاموس اللغة أم هى كلمة مستوردة يستخدمها أبطال مسلسل «حريم السلطان»؟ لماذا الأوروبى لا يلغى موعداً أو يؤجل موعداً لأن السماء دمعت فترة أو فترات أو النهار كله أو حتى بعضاً من الليل؟ الإجابة: لأن عقول المسؤولين مفتوحة، وبالوعات الشوارع مفتوحة، ومواسير الصرف مفتوحة، وفى الشارع انحدار جانبى طفيف يساعد الأمطار على التسرب إلى البالوعات والانحدار إليها. فلا عمليات شفط فى أوروبا إلا شفط الدهون لدواعى السمنة المفرطة، هناك- مش هنا- لو ثبت إهمال ما، فبقدر حجم السوء الذى صنعه هذا الإهمال يعاقب المسؤول: ولم يبارح ذهنى ما رأيته فى أحد مستشفيات نيويورك يوما ما، إذ رأيت جرّاحاً كبيراً للعظام يعمل فى أرشيف المستشفى عقاباً على إهماله وهو الأمريكى.. إذ قطع الساق السليمة لمريض شاب بدلاً من الساق التى استشرى فيها المرض، وذلك لرؤية خاطئة بصورة الأشعة! وقالت المحكمة إنه رغم الخبرة الكبيرة والسمعة الكبيرة كجراح يكتفى بالعمل فى الأرشيف ويكف عن ممارسة الجراحة طول العمر.. تلك هى شفرة نهضة الشعوب وتفوقها وإحساسها بذاتها فوق خريطة الكبرياء.

إننا شعب فى حاجة إلى (هزة) لنفيق من الإغماء، إننا شعب الكروش التى تعوقنا عن الحركة، إننا شعب (نغنى لمصر) أكثر مما نعمل من أجلها، إننا شعب لا تجتمع ملايينه إلا عند أى استنفار وطنى (راجعوا 30 يونيو)، مثل هذا الشعب، مطلوب فقط الصحيان الاجتماعى والانتباه القومى بمثل استنفاره الوطنى.

.. وآه يا بلد فيكى حاجات محيرانى، مرة تغرقى فى شبر ميّه، ومرة تهدِّى خط بارليف بخراطيم الميّه، ومرة تتخلصى من حاكم بإمضاء متمرد فوق ورقة بحجم الكف.

نقلا عن المصري اليوم


More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع