(١)
فى خطابه الافتتاحى لفترة رئاسية ثانية، كرر جورج بوش الابن - والشهير بـ«دبليو» - كلمة الحرية ومرادفاتها تسعاً وأربعين مرة، فى خطاب مدته عشرون دقيقة..!
أما إسرائيل فقد أنفقت عقوداً من الزمن لتغيير تعبير «الأراضى المحتلة» - فى وثائق الصراع فى الأمم المتحدة - إلى تعبير «أراض متنازع عليها»..!
«وأن تتخذ كل قبيلة راية ممايزة عن القبائل الأخرى».. كان هذا طلب سير بيرسى كوكس من قبائل الخليج العربى فى أواخر القرن التاسع عشر، والرجل هو السياسى والعسكرى البريطانى صاحب النفوذ الأوسع فى منطقة الخليج العربى والمحيط الهندى منذ عام ١٨٩٣ ولمدة ثلاثين عاماً..!
أما تعبيرات «جاهلية المجتمع» و«الجيل الربانى» و«الحاكمية» فهى جوهر ما تردد على لسان حسن البنا، وأبوالأعلى المودودى وسيد قطب، وكانت أصخب ما ملأ أثير الفكر الإسلامى على مدار القرن العشرين..! من رايات ترفرف - إذاً - أو من تعبير يصك، ومفهوم يحتكر، تولد أكاذيب كبرى - من رحم حقائق كبرى - لتتفاقم بها مآس وأزمات تذهب ريح أمم وتفنى شعوباً.
لم يكن «دبليو» ومجموعة المحافظين الجدد فى أمريكا.. يحبون فقط التشدق بكلمة الحرية.. ولكن حقيقة كانوا يحاولون احتكار مفهومها ليصبح - ما يقررونه هم هو الحرية - حتى ولو كان عكسها.
ولم يكن «السير كوكس» معنى كثيراً بأن يرى هويات لتلك القبائل.. بقدر ما تحرك الرجل على قاعدة الطائفية أو القبلية أو العصبية لينشئ للصراعات أسبابها ومسارها التاريخى.
ويقيناً إسرائيل ليست حريصة على التدقيق اللغوى بقدر ما هى معنية بإخراج القضية من إطار حق اغتصبته منا إلى حق مشاع - فقط - متنازع على حدود ملكيته.
وقطعاً كان البنا والمودودى وقطب يظنون فى تلك الحالة من التعالى بالدين، والعزلة الشعورية، أنهم يخلقون قدراً من النقاء العنصرى الكفيل بالانتصار للدين كما يعتنقونه هم..!
وبمثلها، ولكن من «ثنائيات ضالة» و«مفاضلات مستحيلة» - تجافى المنطق والرشد - تعتنقها وتروجها الشعوب تنشأ بذرة كل تطرف عرفته البشرية أو ستعرفه.. وهو ما تضيع به أوطان ودول.
وإذا كانت الأكاذيب الكبرى هى بذور كل تطرف وسياق كل اغتصاب..فـ«الثنائيات الضالة والمفاضلات المستحيلة» هى ما يحرث وعى الشعوب ليجعله تربة خصبة، قابلة للاستعماء ومن ثم الاستعمار أو الاستبداد.. وللأسف هى ما تأنس له الشعوب وتتعاطاه وتروجه. ولنا من تلك الثنائيات والمفاضلات فى مصر ٢٠١٤ نصيب وافر وفائض..!
(٢)
من أفتى بأن الحرية والأمن لا يجتمعان..؟! ادعاء يمارسه كل من يريد الحرية انفلاتاً أو من يريدون الأمن تضييقاً وقمعاً.
ومن قال إن كفاية الفقير وكرامته ضدان..؟!
من أين أتى تعبير عنصرى الأمة.. ولِمَ نصرف المعنى لمفاهيم الاحتكاك والانقسام والنار تحت الرماد.. أين بقية عناصر الأمة إذاً..؟!
من جعل تعبير «عنصرى الأمة» قاعدة للفرقة والشقاق والتنابذ بالعصبية بدلاً من البناء على تنوع ثراء عناصر الأمة..؟!
ثنائيات «الحرية والأمن».. «الكفاية والكرامة».. «التنوع والتعايش».. كيف أحلناها إلى ثنائيات متضادة ومداخل ضالة لقتل معنى الوطن والدولة..! هذا ما تسلط به مبارك ونظامه ثلاثين عاماً.. ولم يذهب بعده..!
حدث ويحدث ذلك ومحركه سوء النوايا من بعض القائمين عليه.. ولكنه يحدث أكثر كثيراً ومحركه الجهل وسوء التقدير، وإن حسنت النوايا.
وبمثلها من أين أتينا بتلك «المفاضلات المستحيلة» ومن أين لنا بتلك الجرأة أن نحرق كل هذا الوقت فى مناقشتها بجدية وهى عين الهزل..!
هل يقبل أن تكون هناك مفاضلة بين أيهما أكثر وطنية، الجيش الوطنى أم الشعب؟
هل يمكن أن نمايز بين صدق وطنية مصرى وآخر لأن هذا ابن جغرافيا وهذا ابن أخرى.. أو أن هذا ينتمى لمؤسسة ما وذاك ينتمى لأختها.
هل يمكن نمن بفضل شعب على جيش هو نتاجه.. أو بفضل جيش على شعب هو منه..؟!
هل يستقيم عقلاً أن يباهى شعب شرطته بترفعه عن الجريمة والمخالفة.. أو أن تتندر مؤسسة أمنية على شعبها بتحقيق أمن مجتمعه والذى هو رسالتها ومناط وجودها وأمانتها.
كيف يفرد لكل هذا ساعات من الطنين الإعلامى.. تلميحاً وتصريحاً..؟!
(٣)
لماذا تبقى اختياراتنا دائماً - إذا اخترنا - أقرب إلى الطرفية فى كل شىء.
فإما أن نكره كل قديم لأجل أن نتبنى الحداثة.. أو أن نعتصم فى الزمان - قبل المكان - باسم الأصالة والحفاظ على الجوهر.
لماذا الحديث عن الشباب وتمكينه.. هو حديث عن صراع جيلى صفرى.. فإما عنصرية عمرية وتمكين شريحة سن ما بالقطيعة مع خبرات من سبقوا واحتقار التراكم.. أو الإبقاء على الأكبر بمعنى كره الإبداع وتأثيمه والتعالى على الجديد..!
أين الحديث عن أهلية الشباب أو الكبار على السواء.. أين الحديث عن المؤهل، شاباً كان أو شيخاً.. رجلاً أو امرأة..؟!
لماذا نقتل الوقت والجهد لنتصارع على إجابة سؤال أى الاحتلالين أفضل، أو أى الاستبدادين أرق؟!
لماذا العلاقة مع الغرب إما انبطاح باسم الصداقة، أو تناطح باسم المؤامرة.. وفى الحالتين إما أننا ننفق مواردنا قرابين على عتبة الصداقة، أو ننزفها فى صراعات حدية لا تؤتى ثماراً..!
لماذا يراد أن نختار بين حب العلم التجريبى وكره الدين.. ونخلق صداماً بين العقل والنقل..؟!
ولماذا دائماً نقرن بين الأصالة والرجعية.. ونصر على أن نجمع بين التدين والخرافة.. ونخلط بين الوطنية والعصبية.. وبين ذكر الفضل لأهله وحمدهم بما لم يفعلوا..؟!
لماذا نتقال أن نكون بشراً.. فيه الخير والشر والجمال والقبح..؟! لماذا بين لحظة وأخرى الناس إما ملائكة أو شياطين..؟!
لماذا نصر أن يكون حال المسؤول فى بلادنا إما نصف إله فوق مراتب البشر لا يسأل عما يفعل وغيره يسألون.. وثناً لا يجوز الاقتراب منه إلا بغية القربى.. أو أن نحيله صنماً يحطم ليل نهار..؟!
ولماذا الخوف من الحرية حتى تأثيم الحلم بها، أو التعسف فى استخدامها حتى الانتحار..؟!
لماذا التنظير المستتر والمستمر أن البشر فى بلادنا فقراء يحتاجون الستر بالاقتصاد.. يحتاجون العيش وكفى.. وأن الحرية والعدل هما رفاهية الشعوب الأرقى..؟!
لماذا استدعاء وعى الناس عندما نطلب منهم العطاء والانتماء.. ولماذا محاربته وتغييبه حين يكون وقت أخذهم وملكيتهم..؟!
لماذا القبول بثنائية الاستعباد، فإما القبول بالاستعباد والانكسار أمام أى سلطة أعلى.. أو ممارسة السادية على كل من هو دونك..؟!
لماذا التواضع فى الحلم، حتى الحلم الذى لا يقبل التواضع فيه..؟!
ولماذا حلم العدل هو إعادة تدوير الظلم، أو المقولة الضالة وهى التساوى فيه..؟!
بماذا نسمى كل ما سبق فينا.. أليس تطرفاً كان ومازال فينا..؟!
ولماذا كل ما سبق فينا.. هل نحن نحب التطرف..؟!
التطرف ليس فقط غلواً فى الدين كما عرفناه وألفناه على مدار أربعين سنة أو أكثر.. التطرف هو أن «نترخص» فى كل ما يلزم أن يجعلنا بشراً مكتملى الإنسانية حتى نقبل بأن نحيا كالكائنات الأولية تأكل وتتنفس وتتكاثر وكفى.. أو أن «نتشدد» فى غير موضع بأننا غير البشر وفوق البشر.
آن لنا أن نكسر طوق التطرف الذى نحياه إذا كنا جادين فى أمر الترحال نحو المستقبل.. وأول شىء نفعله أن نراجع أنفسنا بجدية فى كم من «الثنائيات الضالة والمفاضلات المستحيلة» التى نستدعيها كل يوم ليس فقط للتندر بها.. ولكن لكى نؤسس عليها حركة حياتنا ومؤسساتنا.
آن لنا بألا نقبل بأن نكون كهوام الأرض، وألا نتوهم بأننا ملائكة..
آن لنا أن نحيا أناسى.. سلطة وحكاماً ومحكومين..!
هذا إذا أردنا ألا نضيع «الحرية» باسم الديمقراطية.. وألا نضيع «العدل» باسم القانون.. وألا نضيع «الوطن» باسم الدولة..!
فكروا تصحوا
نقلا عن المصرى اليوم