الأقباط متحدون - محمود عبدالوهاب و«العيش فى مكان آخر»
أخر تحديث ١٣:٥١ | الثلاثاء ٢ ديسمبر ٢٠١٤ | ٢٣هاتور ١٧٣١ ش | العدد ٣٤٠٣ السنة التاسعه
إغلاق تصغير

شريط الأخبار

محمود عبدالوهاب و«العيش فى مكان آخر»

محمود عبدالوهاب و«العيش فى مكان آخر»
محمود عبدالوهاب و«العيش فى مكان آخر»

 محمود عبدالوهاب قصاص سكندرى، يقف على مشارف الخمسين من عمره، دخل مجال الإبداع متأخراً مفتوناً بأستاذه محمود الوردانى، لفت انتباهى بروايته الشائعة الأخيرة «العيش فى مكان آخر» بعد أن تعمد بالثورة فى ميدان التحرير، وأصدر متتاليته القصصية «أحلام الفترة الانتقالية» مشبعاً بروح محفوظ التى تظلل كل الأجيال، ولابد لى أن أعترف للقراء بأن اختياراتى للأعمال التى أعرض لها بالنقد تحرص على التنوع بين الكبار والشباب، وهى ليست ممنهجة كما أود، بل تخضع للصدفة التى لا تخلو من عشوائية، لكنها لا تضع المجاملة فى حسابها، فكثيراً ما أكتب عمن لا أعرف من المبدعين، وقد كدت أقع فى الخلط عندما التبس علىَّ اسم محمود عبدالوهاب بكاتب سبعينى آخر، يختلف جذرياً عنه، لكن طبيعة التجربة، وطزاجة الرؤية، ومذاق الخبرة المطروحة فى الرواية عصمتنى من هذا اللبس، وأكاد أنصح كاتبنا بأن يضيف إلى اسمه ما يميزه عن سابقه تفادياً للخلط وحرصاً على التفرد، فضلاً عما يتبين عند القراءة من امتلاكه لطاقة سردية ناعمة وذاكرة بصرية ثاقبة وقدرة فذة على استثارة المشاعر المرهفة، وتجسيد اللفتات المدهشة بتلقائية تجعل قراءته متعة رائقة.

 
وأول ما يطالعك فى هذه الرواية هو الدفء الإنسانى الغامر، إذ يقترب منك شاب مصرى ناضج، يعمل فى الخدمة الفندقية فيما يسمى أبراج مكة عند الحرم، يتميز عن غيره بإتقانه اللغة الإنجليزية وإجادته لأصول المهنة، آثر باهتمامه زوار البيت الحرام من مسلمى جنوب أفريقيا لسهولة التواصل معهم بالإنجليزية وترفعه عما يفضله زملاؤه من الإكراميات التى تجرح كبرياءه واعتزازه بنفسه، استطاع نتيجة لذلك أن يعقد عدداً من الصداقات الحميمة بالرجال والنساء الذين يتعاملون معه، وأن يرصد بحساسية فائقة تلك المواقف والأوضاع التى يجد المصريون أنفسهم متورطين فيها دون قصد، وما ينبغى عليهم تفاديه أو تحمله من ذل، مما يجعل المعاناة المباشرة والخبرة الساخنة، ثم القدرة على تجسيد ذلك فنياً بتقنيات الوصف والإشارة والتمثيل الجمالى شرطاً للصدق، وأساساً لإعادة تخيل الواقع، يقول الراوى مثلاً: «فى مكة ذقت لأول مرة طعم وإحساس المواطن من الدرجة الثانية، كان سعوديون كثر ينادوننا فى بهو استقبال البرج الفندقى هكذا: يا مصرى! كان هذا يثير غضبى إلى أقصى درجة، لكنى ممنوع من أن أعبر عن هذا الغضب إلا بالتلكؤ فى معظم الأحيان، كأن أكون معطياً إياه ظهرى، أغضب فى داخلى وأرغب فى الشجار معه ورد إهانته، ولكنى أعرف أن هذا ما يريده، وشجار واحد كفيل بتهديد وجودى فى المملكة، لم يكن كل السعوديين يفعلون هذا بالطبع، كان بعضهم ينادى: يا أستاذ، أو يقول السلام عليكم، وعندما ألتفت له يبادرنى بعبارة «حياك الله» ثم يدخل فى الموضوع. لاحظ معى هذا الحس العادل فى تمثيل الواقع وإنصاف الآخر، فهناك من لايزال يحتفظ بغلظة الأعراب البدوية أو نزعة الاستعلاء النفطية، وهناك من صقلته التربية المتحضرة، ولكن انكسار الروح، كما وصفه من قبل المنسى قنديل وجسده إبراهيم عبدالمجيد والعمرى يظل جاثماً على نفس كثير من العاملين هناك من جميع الجنسيات، فيؤدى إلى نتائج عميقة الغور فى طبيعة الشخصية، فهى إما أن تستمرئ العبودية، وتبررها تصالحاً مع الواقع، وإما أن تنغمس فى شعور مرهق بالدونية فلتجأ إلى الانتهازية المفرطة وتتبنى مواقف السادة وأيديولوجيتهم، وإما أن تؤثر الاعتصام بعزة النفس وتوطد أمورها على السعى للخلاص فى أقرب فرصة.
 
محاولات الخروج:
 
تتميز الرواية ببنيتها السردية البسيطة، حيث يحكى الراوى «جو» أو «يوسف» قصة ملله من العمل فى مكة، واتفاقه مع السيدة «فزيلة - أى فضيلة» على إنشاء شركة سياحة جنوب أفريقية، يكون مقرها الرئسى فى مدينة «دبريان» التى تقيم فيها، ويكون دور الراوى أن يقوم بكل العمل، مع تدريب ابنها «رياز أو رياض» معه، «أقوم بالحجز للأفارقة الراغبين فى أداء الحج والعمرة، وأجمع الأموال وأتراسل مع نفس الفندق الكبير فى مكة، وأدفع تأمين المواسم الكبيرة من حسابها الخاص فى لندن، نظراً لصعوبة إخراج «الراند» - وهو العملة الوطنية هناك - من البلاد جراء القيود على التعامل بالدولار بعد ثورة مانديلا - لاحظ أن الرواية تقع فى تسعينيات القرن الماضى - كنت أطمع بالتأكيد فى مغادرة مكة والعيش فى مكان آخر، وهو ما جعلنى أبذل جهداً لنيل ثقة العديد من مواطنى جنوب أفريقيا، لأنى خمنت أن ذلك المكان ربما يكون هو محطتى التالية، مثل معظم الذين جاءوا إلى مكة وهم يسعون إلى الخروج منها إلى مكان أفضل، هذا الشعور بالحصار والرغبة فى الفرار كان مبرراً لدى شاب فى ثلاثينيات عمره، يعترف بأن مطارحة النساء والحديث الباسم معهن - على خطورته - هو المتنفس الوحيد الحافظ لكيانه فى تلك البقعة الجرداء من أرض الله فى العالم، بقعة ليس فيها زرع، يتذكر بشجن ما قاله له أحد الباعة الوطنيين وهو يشترى شيئاً منه فى شارع إبراهيم الخليل بعد شبه مشادة بينهما «قال لى جملة بعد أن عرف أنى من مصر تلخص ما كنت أشعر به ولا أستطيع قوله: يا أخى أنتم أرضكم خضراء وقلوبكم مثلها خضراء، ونحن أرضنا جافة وقلوبنا مثلها» وربما كان هذا الجفاف يحتاج نداوة أجيال عدة حتى ينقدح فى أعماق الشخصية، لكن فضيلة لم تكن هى التى جذبت الراوى للذهاب إلى جنوب أفريقيا وحدها، فهى سيدة أعمال فحسب بل كانت «تسنيم» التى تعرف عليها فى مكة، وفتنته بعينيها الباسمتين وجاذبيتها الطاغية وقوامها الذى يصفه بأنه «عرسى» وقدرتها على أن تعقد بنظراتها صداقة أمام الناس فى دقائق وجيزة فخاطفة. ذهب الراوى لتنفيذ الاتفاق حيث تدور معظم أحداث الرواية فى مدن جنوب أفريقيا العديدة، دون انقطاعات زمنية إلا بالخواطر والذكريات، نزل مدينة «دربان» فوصفها بدقة المعايشة الواقعية التى لا يمكن للتخيل وحده أن يحيط بها، اقتنص من مشاهدها ما يثير انتباهه وتأملاته وهو يمضى مع شريكه المنتظر «رياز» فيكشف فيه شاباً نزقاً متهوراً يقود سيارته بسرعة جنونية «أخذت أنظر إلى المحلات فى الشارع الرمادى، وقفنا أمام محل عليه صور فرعونية تملأ الواجهة، أخذت أتفرج عليه مندهشاً وأنا أقرأ اللافتة «خبير المساج».. بالداخل كان هناك رجل يجلس على مكتب فاخر، بعده سلم يؤدى إلى الطابق العلوى حيث تتراص الغرف المرقمة، وعلى السلم وأمام كل غرفة تجلس الفتيات الجميلات يخطفن الأبصار بفساتينهن السوداء وزينتهن الظاهرة، وعلى كل الحوائط علقت صور وتماثيل فرعونية لم يستطع الراوى بطبيعة الحال إدراك الصلة بين الديكور الفرعونى وطبيعة عمل المحل، كما أنه لم يخيب توقع القارئ باصطحاب فتاتين إلى السيارة، بل لعله يمعن فى تفصيل هذا النوع من التجارب الجنسية بإسراف يمثل العنصر الحريف فى الرواية كلها، لكن أبرز مفاجأة سردية جاءت عقب هذه الليلة إذ يتلقى الراوى صبيحة اليوم التالى نبأ مصرع «رياز» فى حادثة سيارة نتيجة تهوره، فلا يكاد يصدق أنه نجا من الموت بأعجوبة، وتتبخر أحلامه فى تكوين الشركة السياحية، ويكون عليه أن يجتر بقية علاقاته ويتصل بعدد من أصدقائه بهدى من «تسنيم» الملاك الراعى لحركته والموجه لاتصالاته ومشروعاته، لكن لا يفوته أن يسجل ما كانت تعانى منه جنوب أفريقيا إثر ثورة مانديلا الديمقراطية من فوضى عارمة وافتقاد شديد للأمن «لأن السود وهم يمثلون تسعين فى المائة من السكان أحسوا فجأة أن بلادهم صارت لهم بعد أن كانوا جوعى ومشردين وأن بوسعهم أن يفعلوا ما شاءوا، فانتشرت حوادث السرقة بالإكراه والقتل أيضاً إن لم يستجب الضحية لرغبة الجانى، كان الهنود وهم يمثلون الطبقة الثرية التى آلت إليها أملاك البيض هدفاً لهذه الأحداث، دون أن تستطيع الدولة حمايتهم أو تأمين البيوت والناس والشوارع، فالديمقراطية الوليدة تمنع قمع الحريات، وهذه هى الأعراض الجانبية للثورة»، وأحسب أن الكاتب فى استرجاعه لمشاهد الرعب والخوف من هجوم السود على الراوى ومضيفيه كان يلمح لبعض هذه الظواهر فى تجربة ما بعد ثورة يناير، وإن كان الفارق شاسعاً بين الحالتين وطبيعة المجتمع فى كلا البلدين.
 
لغة الكتابة:
 
يصف الوردانى أسلوب الكاتب بأنه «مشطوف» ويقصد به ما أعنيه أحياناً بكلمة «مغسول» أيضاً، وهما من صنبور واحد، وأشير بهذا إلى خلو اللغة من طبقات المجاز المتكلف حيناً مثل البقع، والمطبوع أحياناً أخرى مثل التوشية والتطريز والرسم المنمنم الشائق فى بعض الأحيان، فهو مجرد حكى أملس، لكنه والحق يقال يتسم بقدر كبير من الاتساق والهارمونية، فشخصية الراوى «جو» بالغة الصدق والوضوح، خبرته الفندقية تنضح من جميع تصرفاته، فهو يحكى لك عن أسعار الأجنحة والغرف فى الأيام العادية، وفى مواسم الذروة التى تباع فيها دفعة واحدة «باكيدج» كما يصور لك رجلاً فندقياً يحتفظ فى جيبه بعشرات البطاقات لزبائنه، وفى ذهنه بمئات الصور والمشاهد لهم بمفردهم أو مع عائلاتهم، أثناء وصولهم للاستقبال لتأكيد الحجز أو لتغيير الغرف أو حل المشكلات العارضة التى يعرفها جيداً، ثم لا تمحى من ذاكرته مشاهد اجتماعه مع رفاقه بعد العمل لتناول الطعام فيطلبون دجاج الفقيه أو وجبة من الكباب والأوصال، ثم يعنى بأن يشرح لك أن الكباب فى السعودية هو الكفتة المصرية - أما الأوصال فهى الكباب. ويكاد يلامس الواقع وهو يحكى قصته مع «يوسف دادات» شقيق الداعية الشهير الذى حصل على جائزة فيصل لخدمة الإسلام والذى عولج من الجلطة فى مستشفى الرياض، وكيف أنه خدم يوسف بإبقاء حجزه للجناح الذى اختاره على اسمه مع تأجيره فترة غيابه فى المدينة، الأمر الذى يتطلب ثقة تامة فى المستأجر الجديد ومسارعته بالإخلاء عند عودة الأصلى، ثم يختار الراوى لذروة سرديته لحظة فارقة بعد عودته من جنوب أفريقيا دون تحقيق غايته، حيث ظفر بما يعتقد كل من عاش فى مكة أنه أهم تجربة فى حياته، استطاع عقب موسم الحج وخلال فترة وقف العمرة أن يدخل الكعبة المشرفة ويصلى فى اتجاه أركانها الأربعة، ومع أن طبيعة تفكيره طوال الرواية لم تكن دينية غير أنه يبوح بأنه جلس حينئذ وراء حجر إسماعيل وأخذ يتأمل المصلين والغادين والرائحين «كان كل شىء يبدو هادئاً ذلك العصر، الشمس حانية، والناس قليلون، والرخام الأبيض يلمع ويعكس شيئاً من أشعة الشمس على عينى فأغلقها منتشياً وأرى نفسى فى شرم الشيخ»، حيث كان يأمل فى استئاف مستقبله بسكينة وارتياح، وربما لاح للقارئ سؤال عندما تصل به الرواية إلى هذا المدى من صفاء الرؤية، هل يمكن اعتبارها من أدب الرحلات؟ وهى تتضمن بالفعل شحنة قوية من المشاهد والملاحظات الطريفة، لكن ما يسرى فى حناياها من نور الألفة والتحنان الدافق والرغبة الحارقة فى تجسيد أواصر الود والمحبة مع الأماكن والأشخاص يجعلها متميزة عن أدب الرحلات المباشر ليضعها فى قلب التجربة الإنسانية الحميمة وهى لا ترهب المقدس بل تقدم عليه متعة الحياة والحب بشعرية دافقة دافئة.
نقلا عن المصرى اليوم 

More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع