الحديث فى الثقافة أصبح أمرا شائعا. كل كاتب وأديب، مسرحى أو روائى أو مؤلف أو صحفى مثقف مادام يمسك بالقلم ويكتب على الورق، وصاحب صوت عال فى الحياة العامة.
والثقافة نوعان: ثقافة مغطاة بطبقة من الزيف من المصالح ومغطية للواقع الذى تنشأ فيه وساترة عليه، وثقافة كاشفة لهذا الواقع ومميزة إياه. وهو تعريف الحقيقة عند هيدجر. الأولى طريق الغاية الذى تتداخل فيه فروع الأشجار فتحجب الضوء عنه. والثانية وجود فتحة فى هذا التشابك للفروع فيدخل منها الضوء الطبيعى وتنير الطريق. فيرى السائر فيه. الثقافة المغطاة تعنى أيضا الثقافة المغطّية التى تستبدل بالواقع الحقيقى واقعا مزيفا.
تستبدل بالأشياء الكلمات، الأشياء التى يشعر بها الناس كالفقر والجوع والعرى والمرض، والكلمات التى تفرزها الثقافة المغطية فوق هذه الأشياء بدعوى تفسيرها وشرحها بل وحلها عن قريب كحقن مخدرة ضد آلام العيش مع الأشياء. الثقافة المغطية هى الثقافة الغطاء التى تتستر على الحقيقة، هى الثقافة التى تفرز كلاما غير مفهوم وبالتالى غير مسموع ولكنه يملأ الصحف والمجلات. فلا يرى الناس شيئا. والمرئى أكثر بلاغة من المسموع. والأشياء أكثر إقناعا من بدائلها.
والثقافة سواء غطت الواقع لتعمية الناس عنه أو أنارته وكشفته لوعى الناس به وظيفة. الأولى لتثبيت الواقع وعدم تحريكه. فليس فى الإمكان أبدع مما كان. والثانية تحريك الواقع إلى ما هو أفضل منه. الأولى مع الحاكم وفى صالحه. يقوم بها كثير من المثقفين الذين برعوا فى خدمة الحكام. هم فقهاء السلطان وليسوا فقهاء الأمة.
يحققون له مطالبه من أجل مزيد من السيطرة على الشعب وتبرير سلطته وإضفاء الشريعة عليها. لهم المجال واسع فى أجهزة الإعلام وفى منابر الثقافة. لا يصدقهم أحد بل ولا هم يصدقون أنفسهم بينهم وبين أنفسهم. والثانية مع الشعب دفاعا عن مصالحه ومنعا لاستغلاله، وتقوية لمعارضته للاستبداد والفساد. الأولى تعطى معلومات غزيرة، معلومات عامة أو حكايات من السير الذاتية. تحلل أحدث المؤلفات فى الخارج فى أحدث الموضوعات المثارة فى الخارج مع أسماء أعلام يسمع بها الناس لأول مرة. ولا صلة بين هذه المعلومات والواقع المعيش.
ومعظمها عن الخارج، عظمته وتقدمه وإبداعاته مقابل جهلنا وتقليدنا وسلفيتنا وتخلفنا. وتتم الترجمة من الآخر إلى الأنا مما يعطى الآخر إحساسا بالتفوق والعظمة، ويعطى الأنا إحساسا بالتخلف والدونية. فتنشأ عند الآخر عقدة عظمة، وعند الأنا عقدة نقص. ويُصاب الأنا بصدمة حضارية لأنه مهما حاول اللحاق بالآخر عن طريق الترجمة فإنه لن يستطيع لأن معدل إبداع الآخر أسرع بكثير من معدل لحاق الأنا به. فتتسع المسافة بين الاثنين، والأنا يظن أنه يلحق. فيصاب بالصدمة الحضارية. ويقبل وضعه الحتمى فى التاريخ.
وللتاريخ دورات. تتبادله الحضارات. كانت الحضارة اليونانية مبدعة، والإسلامية ناقلة. ثم أصبحت الحضارة الإسلامية مبدعة وحضارة الغرب فى العصور الوسطى المتقدمة ناقلة. ثم أصبح الغرب الحديث مبدعا، والحضارة الإسلامية ناقلة ومترجمة. والتحدى الآن: ماذا عن المستقبل بعد نهضة تركيا وإيران وماليزيا وسائر دول الشرق الإسلامى؟ ولما كان ما يقرب من ٤٠% من شعب مصر أمّياً لا يفهم هذه الثقافة العالمة، فيتجه إلى ثقافته الشعبية التقليدية الدينية أو فى الأمثال العامية. فالمقصود منها تثقيف الشعب بل تجميل النظام السياسى وجعله مقبولا لدى الناس أو تجعلهم أقل معارضة له. والسلطة تريد البقاء، وإضفاء الشرعية عليها.
تهتم بالكم وليس الكيف. تملأ الصفحات بالأحبار، والبرامج التليفزيونية بالحوارات غير المفهومة فيتحول المشاهدون إلى المسلسلات التركية أو الأفلام الهندية. ويفقد الإعلام دوره فى تربية المواطنين، وإنارتهم بالثقافة السياسية التى تعبر عن حاجاتهم. وتكثر الألفاظ المعربة والأسماء الأجنبية وهما من مستلزمات الثقافة العالمة المتعالمة مع بعض صور أصحابها بالشعور والذقون والشوارب وهى الصور المألوفة فى الثقافة الشعبية القديمة والتى تبعث على التبجيل والاحترام.
وتأتى الثقافة العالمة من السلفية أيضا فى التراث من تفريعات فى موضوعات هامشية لا تهم الناس فى شىء مثل عذاب القبر، وحلق عانة الميت، وإرضاع الكبير، ومضاجعة الوداع وهى مضاجعة الزوج لجثة زوجته قبل الكفن والدفن. ثم ينشأ الجدل حول ذلك كله متشابكا مع الثقافة المغطية الأولى. ثم تتشابك الثقافتان فيزداد الغطاء كثافة، والشهداء يسقطون كل يوم، والفقر والجوع والمرض والعرى والجهل لم تتحرك قيد أنملة. وتظل السلفية ثقافة أقرب إلى الناس لأنها مرتبطة بدينها. بل هى عند البعض خرجت منه. ولما كان الموروث أقرب إلى الناس من الوافد. تزداد السلفية عمقا وانتشارا بينما تظن العلمانية أنها تحاربها وتواجهها، وتوقف اختيار الشعب لها دفاعا عن النظام باسم الثقافة. ويرتدى فقهاء السلفية العمة والجلباب، ويطيلون شعور الرأس والشوارب والذقون. فهم الصحابة الأواخر أو على الأقل هم تابعو التابعين إلى يوم الدين.
وبهذا الوضع لا يختلف غطاء العلمانية عن غطاء السلفية. كلاهما يعتمد على حجة القول: «قال دريدا» و«قال ديلوز» من العلمانيين، و«قال الله» و«قال الرسول» من السلفيين. والقول يغطى الواقع ولا يكشفه. يعميه ولا ينيره. ويمهد العقل والوجدان لاستقبال «قال الرئيس». فالقول حقيقة وليس الواقع المشاهد. وتزدهر الثقافة التقليدية الشعبية، الأمثال العامية، والحكايات والسير والأساطير وما تعلمه الشعب من خبراته الطويلة عبر الأجيال. وفيها من الخرافة والسحر الكثير. يعتمد عليها لإعطاء شرعية لنفسه للثورة على الأغطية الثقافية الوافدة والموروثة وللكشف عن الواقع الذى يعيش فيه.
وتصبح هى السلطة الثقافية البديلة التى تتضمن كثيرا من المصداقية. فيتحول المجتمع إلى مزيد من التقليد لخبرات الماضى، وتقديس ما أبدعه، تعبيرا عن تجاربه. ويصعب بعد ذلك زحزحته منها لصالح ثقافة أخرى لا تغطى بل تكشف سواء من الوافد أو من الموروث.
والكل يبكى على غياب الثقافة الناقدة والعقل الناقد، ومثقفو السلطان هم أول من يتخلون عن هذا الدور النقدى للثقافة. الثقافة للدفاع عن الدين أو للدفاع عن السياسة ولكنها ليست لنقد المؤسسات الدينية والنظم السياسية. كانت وظيفة العقل على مدى التاريخ التبرير وليس النقد. فإذا قامت أفراد قليلة بالنقد اتهموا بالكفر والإلحاد وبأنهم خوارج العصر، وبأنهم لا يعرفون معنى الحداثة، وضد المجتمع المدنى. ولا تتفوه ثقافة الغطاء بكلمة واحدة ضد المجتمع العسكرى مع أن الاستبداد واحد، الدينى أو العسكرى. ثقافة الغطاء تبين واجبات المواطنين دون المطالبة بحقوقهم. وأول الواجبات طاعة الحاكم من أجل الأمن والاستقرار. وأول الحقوق الخبز وآخرها الحرية. والنقد ليس مساسا بالأشخاص بل هو كشف للأوضاع الباقية مثل الاستبداد والفساد مهما تبدل الأشخاص.
أما ثقافة الكشف فإنها هى التى تبين أوضاع المستضعفين، سكان العشوائيات وسكان المقابر مقارنة بساكنى التجمعات والأحياء الجديدة. مع أن المستضعفين هم الذين سيقومون بالثورة القادمة «وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِى الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ». هم ملح الأرض الذين تمنى الرسول أن يعيش معهم «اللهم أحينى مسكينا وأمتنى مسكينا واحشرنى فى زمرة المساكين». وقد أثنى القرآن على سلوك علىّ بن أبى طالب عندما تصدق بطعامه ثلاث مرات متتالية على مسكين ويتيم وأسير. وعاش ثلاثة أيام بلا طعام «وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا». ثقافة الغطاء هى ثقافة رجال الدين وفقهاء السلطان، وثقافة الكشف هى ثقافة الأنبياء والشهداء.
نقلا عن المصرى اليوم