تسلم أنور السادات من جمال عبدالناصر فى ١٩٧٠ تركة ثقيلة بلاشك، هزيمة ١٩٦٧ التى أدت إلى احتلال سيناء، وأعقب هذا الاحتلال والهزيمة ركود اقتصادى شديد زاد من الشعور بالإحباط بين الناس، مثقفين وغير مثقفين، وقد كان من الواضح أن الأزمة السياسية والاقتصادية سوف تطول دون أن يكون من الواضح كيفية الخروج منها.
لم تكن شخصية أنور السادات تتمتع بصفات الزعامة التى كانت فى شخصية عبدالناصر، ولكنه كان يتمتع بنوع من الدهاء والمكر لم يتوفر لا للرئيس السابق عليه ولا للتالى له.
كان موقف السادات من المثقفين المصريين مختلفاً أيضاً عن موقف عبدالناصر وحسنى مبارك منهم، لم يكن أى من الرؤساء الثلاثة هو نفسه «مثقفاً» بمعنى الكلمة، ولكن عبدالناصر كان يحمل للمثقفين احتراماً أكبر مما كان يحمله لهم الرئيسان التاليان، كان عبدالناصر قليل الصبر على النظريات والأيديولوجيات، ولكنه لم يكن يستهين بأصحابها، إذ كان يعرف قدر «الأفكار» فى تشكيل وعى الناس والسياسات على السواء، كان عبدالناصر نفسه يطيل التفكير، ولا يضيق بالحوار أو ينشغل بصغائر الأمور، بينما كان السادات يقع بسهولة فى إغراءات الحياة اليومية ومظاهرها، ويفضل جلسات السمر على الحوارات مع المثقفين، هذه الحوارات التى كان مما يستثقله حسنى مبارك بشدة لأسباب يعود بعضها لما يجده من صعوبة فى متابعتها.
كان من بين ما ورثه السادات عن عبدالناصر أيضاً، من تركة اعتبرها ثقيلة، مثقفون يساريون يؤمنون بضرورة أن تلعب الدولة دوراً كبيراً فى الاقتصاد، ووطنيون معادون لإسرائيل وللسيطرة الأمريكية، وبعضهم يولى أيضاً أهمية كبيرة للتقارب العربى والقومية العربية، فما الذى يمكن أن يفعله السادات مع هؤلاء وقد قرر أن يتخذ مساراً مختلفاً عن مسار عبدالناصر فى كل هذه الأمور؟
ذلك أن السادات، على الرغم من أنه كان يكرر فى تصريحاته أنه يسير فى نفس المسار الذى خطه عبدالناصر، أخذ يفعل العكس بالضبط، وعلى الأخص فى أعقاب نجاح الجيش المصرى فى عبور قناة السويس فى أكتوبر ١٩٧٣، تندر المصريون بهذه التصريحات وقالوا إن السادات ربما كان يسير فعلاً على خط عبدالناصر ولكنه يسير عليه ومعه «أستيكة» (أو ممسحة)، فقد خرج السادات بانتظام مدهش على خطوط عبدالناصر الأربعة الرئيسية: فى السياسة الاقتصادية، والسياسة العربية، وفى علاقة مصر بإسرائيل، وبالولايات المتحدة، رفع السادات «على العكس من عبدالناصر» شعار الانفتاح الاقتصادى «وسحب يد الدولة من الاقتصاد»، وشعار مصر أولاً «بدلاً من القومية العربية»، وشعار السلام مع إسرائيل «من قبل استعادة الفلسطينيين حقوقهم المفقودة»، والتفاهم التام «إلى درجة التبعية» مع الولايات المتحدة.
كان من الطبيعى أن تثير هذه التحولات الحادة درجة عالية من السخط والغضب لدى معظم المثقفين المصريين، سواء كانوا يؤمنون بالاشتراكية أو القومية العربية أو رافضين للصلح مع إسرائيل أو للتبعية للولايات المتحدة، وقد اتسم تعامل السادات مع كل من هذه الطوائف من المثقفين بمزيج من العنف والخبث والدهاء، كما استخدم فى تصريحاته الرسمية عن المثقفين كثيراً من التعبيرات غير اللائقة التى لم يستخدم مثلها قط لا عبدالناصر ولا مبارك، فوصف مثلاً واحداً من أكبر أدبائنا بالشيخ المخرف، وقال إنه رمى واحداً منهم فى السجن «مثل الكلب»، ووصف المثقفين المعارضين عموماً بـ«الرزالة» وهددهم جميعاً بأن ديمقراطيته «ذات أنياب» وأنه سوف «يفرمهم»... إلخ.
لم ينجح عبور الجيش لقناة السويس فى ١٩٧٣، لفترة طويلة فى تهدئة خواطر المثقفين المصريين، إذ سرعان ما تبين أن المكسب العسكرى تلته تنازلات سياسية خطيرة، من اتفاقيات فض الاشتباك، إلى استقبال للرئيس الأمريكى نيكسون يشبه استقبال الفاتحين، إلى هجوم متتال على الدول العربية المعارضة لهذه السياسة ووصف شعوبها بـ«الأقزام»، إلى انفتاح بلا ضابط ولا حماية للصناعات المصرية، إلى توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل فى ١٩٧٩.
بدا المثقفون المصريون وكأنهم قد أصابتهم صاعقة، فلم يدروا ماذا يصنعون أو أين يذهبون، أخذ بعضهم متاعه وهاجر إلى بلد عربى أو أوروبى، فذهب البعض إلى العراق حيث رحّب بهم صدام حسين، وبعضهم إلى الكويت حيث قاموا بالتدريس فى الجامعة أو اشتغلوا فى بعض المؤسسات الحكومية أو الصحفية هناك، أو إلى باريس حيث رحب بهم الاشتراكيون الفرنسيون، أو إلى لندن حيث استكتبتهم بعض الصحف الخليجية، أو وجد بعضهم لنفسه وظيفة فى هيئة دولية، ولكن السفر لم يكن متاحاً للجميع، بسبب السن، كما لم يكن هو السلوك الأمثل فى نظر البعض الذين أصروا على الاستمرار فى النضال فى داخل الوطن مهما كانت النتائج، من هؤلاء من استمر يكتب قصصاً رمزية أشبه بالألغاز كـ «نجيب محفوظ»، أو ترك الأدب نهائياً وكتب مقالات سياسية قائلاً إنه لا يمكنه أن يكتب قصصاً وروايات وبيته يحترق، كـ «يوسف إدريس»، ومنهم من أغلق عليه باب بيته ورفض الخروج منه أو استقبال أحد فيه مثل «جمال حمدان».
ولكن استمر رجال من نوع فتحى رضوان وحلمى مراد يكتبون المقالات النارية فى نقد سياسة الحكومة فى كل هذه الاتجاهات الأربعة، وتبنى بعض المعارضين الخطاب الإسلامى، بعد تفسيره تفسيراً يسارياً ووطنياً، فى الكتابة فى نقد النظام مثل «عادل حسين وحسن حنفى».
لم يجد أنور السادات من المثقفين من يمكن الاستعانة به إلا نوعاً باهتاً من المثقفين ممن عُرفت عنهم ميول شخصية كميول السادات نفسه مثل «رشاد رشدى الذى قيل إنه عاون السادات معاونة كبيرة فى كتابة سيرته الذاتية: البحث عن الذات»، أو بعض اليساريين القدامى الذين رأوا فى سياسات السادات حكمة لم يرها غيرهم «فكتب لطفى الخولى يمتدح ما سماه بمدرسة السادات السياسية»، أو بعض الدعاة الإسلاميين الذين يفسرون الدين تفسيراً لا يتعارض مع رغبات الحاكم، حتى ولو أدى إلى تغذية الفتنة الطائفية «مثل أحاديث الشيخ متولى الشعراوى فى التليفزيون».
كان من الممكن أن يستمر نظام السادات مستنداً إلى هذا النوع من المثقفين دون أن يخشى خطراً من بقية المثقفين، لولا ما اعتراه من خوف مستطير عندما شعر فى صيف ١٩٨١ ببدء تنكر الولايات المتحدة له، بعد زيارة له لأمريكا، فاستشعر الخطر من أن تنقلب عليه الإدارة الأمريكية، بل قد تدبر له ما يطيح به، فعاد من أمريكا لتنفيذ عملية اعتقالات واسعة لا أظن أن المثقفين المصريين عرفوا مثيلاً لها من حيث شمولها لليسارى واليمينى، المسلم والقبطى، الرجل والمرأة.. إلخ، وهى اعتقالات سبتمبر ١٩٨١ الشهيرة، التى لم تستمر أكثر من أسابيع قليلة، إذ حدث اغتيال السادات فى ٦ أكتوبر ١٩٨١، الذى أدى إلى الإفراج عن المثقفين، بمختلف اتجاهاتهم، واستقبال الرئيس الجديد لهم فى قصره مواسيا، ولكن سرعان ما عادت محنة المثقفين المصريين من جديد بعد شهور قليلة من بداية حكم الرئيس الجديد.
نقلا عن المصرى اليوم