تعمل فى مهنة لا يحتمل كثير من الرجال مجرد الحديث عنها، لكنه عملها الذى كتب عليها أن تختصر حياتها بين الأموات، ترى بعينيها جثثاً مشوهة ومقطعة، احترفت التعامل معها، لتكون صاحبة الحق فى الدفاع عن أصحابها أمام العدالة. إلهام عوض، 32 سنة، أشهر طبيبة شرعية فى مشرحة زينهم، امرأة بسيطة اعتادت رؤية الأموات يومياً، تقول إن هناك تواصلاً بينها وبينهم، وإن أسعد لحظات حياتها وقت دخولها لتشريح جثة.
كان عملها سبباً فى رؤيتها أشياء لن تنساها إلا بخروج روحها، وأصعبها على الإطلاق رؤية طفل لم يتجاوز عامه الثانى، صريعاً نتيجة التعذيب على يد والده، وعجوز وحيد مات داخل شقته بسبب غيبوبة سكر، وبعد انبعاث رائحة الجثة كسر الأهالى الباب ليجدوه جثة متعفنة، وبعد مرور 20 يوماً داخل المشرحة، حضر نجله يرتدى جلباباً أبيض قصيراً ويطلق لحيته ويمسك بمسبحة، ليسأل عنه.. وإلى الحوار:
■ التشريح مهنة مخيفة وصعبة، ولا يستطيع تحملها الرجال، فلماذا اخترتِ العمل طبيبة شرعية؟
- فى البداية لا بد أن يعرف الجميع أن مناهج كلية الطب تضم مادة اسمها علم التشريح، وكل طلبة الطب درسوا هذه المادة، ونتعلم فيها خطوات التشريح وكيفية التعامل مع الجثة، ووجدتها ماده شيقة ولا تشعرنى بالملل، ووجدت نفسى أحصل على أعلى الدرجات، وأتفوق على الجميع فى هذه المادة، بالإضافة إلى أن شقيقتى الكبرى تعمل طبيبة شرعية، وكنت دائماً أتحدث معها، وأطلب منها أن تحكى لى قصص وحكايات الجثث التى تقوم بتشريحها، ومن هنا قررت أن أصبح طبيبة شرعية.
تعرفت فى «الطب الشرعى» على أنواع الأسلحة النارية وكيفية تفكيكها والتعامل معها أكثر من حامليها
■ هل واجهت اعتراضاً من الأسرة على عملك فى الطب الشرعى؟
- بالعكس، تركوا لى حرية الاختيار، بالإضافة إلى أن أسرتى تتفهم طبيعة عمل الطبيبة الشرعية، من خلال مرورها بتجربة شقيقتى الكبرى.
■ هل أخبرت زوجك بطبيعة عملك كطبيبة شرعية قبل الزواج؟
- زوجى سبب النجاح الذى حققته كطبيبة شرعية، حيث تزوجته قبل الالتحاق بالطب الشرعى، وبمجرد أن أعلنت المصلحة عن قبول دفعة من الأطباء الشرعيين وجدته يحضر لى إعلان الوظائف، بسبب علمه بحبى الشديد للتشريح، وبالفعل تقدمت للوظيفة، وأثناء فترة الاختبار أعير زوجى مديراً لأحد البنوك فى دولة عربية، وقررت الذهاب معه، لكنه رفض، وطلب منى الاستمرار فى الاختبارات. وحتى بعد قبولى فى الطب الشرعى، رفض ذهابى إليه، وهو صاحب الفضل فى نجاحى كطبيبة شرعية.
■ هل يعرف أطفالك طبيعة عملك أم لا؟
- على الرغم من صغر سن «عمر» ابنى، فإننى أخبرته بعملى فى الطب الشرعى، بل وحضر معى أكثر من مرة إلى المشرحة، وشاهد صور الجثث التى أعمل عليها، وقال لى: «ماما دم، اتعور، ده عمل حادثة».
■ كيف كان انطباع جيرانك عنك بعد علمهم بطبيعة عملك؟
- فى البداية يشعرون بالخوف، ويبتعدون عنى، وبعد فترة من التعامل، يجدون أننى مثلهم فى كل تصرفاتى، ويتعاملون معى بشكل طبيعى.
■ كيف كانت اختبارات الطب الشرعى؟
- يتم اختبار قوة القلب والتحمل بواسطة الخضوع لبعض الاختبارات النفسية، وبناء عليها يتم تقييم الطبيب، هل يصلح للعمل فى الطب الشرعى أم لا؟ بالإضافة إلى بعض الاختبارات القائمة على مادة التشريح من خلال عدة أسئلة يتم الإجابة عنها.
إلهام تستخرج جثة من الثلاجة
■ هل شعرت بالخوف فى أول يوم عمل كطبيبة شرعية داخل مشرحة زينهم؟
- بالطبع، فالخوف موجود داخل كل إنسان، لكن خوفى كان من الخطأ فى العمل، لأن جثة المتوفى أمانة، ومن الممكن أن يتحول المتوفى نتيجة خطأ بسيط من الطبيب الشرعى من مجنى عليه إلى جانٍ، ففى قضايا الدفاع عن النفس، قد يبرر المتهم قتله للمتوفى بدفاعه عن نفسه، ومعنى ذلك أن المتوفى هو المتهم، وفى هذه القضية لا بد من التشريح الدقيق للوقوف على الحقيقة، وحتى لا يضيع حق المتوفى ويصبح متهماً، كان هذا سبب خوفى فى البداية، ولذا ففى أول شهر لى داخل مشرحة زينهم كنت أستعين بعدد من زملائى الأطباء الشرعيين الكبار، للوقوف بجوارى أثناء عملى فى تشريح الجثث، أما خوفى بسبب المكان، أو التعامل مع الجثث، فأنا لا أخاف من أى جثة، مهما كانت بشاعتها، وأتعامل معها بسعادة تامة.
■ ما سر حبك للعمل كطبيبة شرعية؟
- هذا العمل ممتع، وفى كل يوم يوجد جديد، ولا أشعر فيه بالملل، حيث تشهد مشرحة زينهم كل يوم أكثر من 5 قضايا قتل، بجانب الجثث المجهولة، وكل جثة وراءها قصة، ومشرحة زينهم للذين لا يعرفونها نبض المجتمع، حيث إن الجريمة تجعلك تقرأ المحيط الذى تعيش فيه من كل جوانبه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والحقوقيون والسياسيون يتعرفون على المجتمع من خلال صفحة الحوادث، فما بالكم بمشرحة زينهم، فهى صفحة حوادث كبيرة.
■ ما طبيعية عملك داخل مشرحة زينهم؟
- العمل ينقسم إلى 3 أقسام: الأول خاص بتشريح الجثث ومعرفة سبب الوفاة، والثانى فحص الأسلحة التى ارتكبت بها الجريمة، حيث يتم مقارنة الطلق النارى المستخرج من الجثة بالسلاح المحرز، وتفكيك السلاح كاملاً وفحص أجزائه وكتابة التقرير وإرساله إلى النيابة العامة، ولقد أصبحت أعرف عن الأسلحة النارية ما يجهله عنها حاملوها. والقسم الثالث والأخير الكشف على حالات الاغتصاب والتحرش وهتك العرض والشروع فى القتل.
■ هل تتذكرين أول جثة قمت بتشريحها فى حياتك العملية؟
- بالتأكيد، وكانت جثة فتاة من البدو، تم العثور عليها بعد 20 سنة من الوفاة، ووقتها كان ينتابنى الخوف من احتمال كونها مومياء فرعونية، وليست جثة إنسانة، لأنها كانت ملفوفة بأكثر من كفن، واتصلت بالمأمور وبعض كبار الأطباء الشرعيين، وانتهينا إلى أنها جثة فتاة من البدو قتلها أهلها ودفنوها.
■ ما الجثث التى تعاطفت معها أثناء تشريحها؟
- حالات تعذيب الأطفال، فقد قمت بتشريح جثة طفل لم يتعد عمره عامين، ووجدت أن جثته تعرضت لتعذيب وحشى، ووقتها بكيت عليه، خاصة عندما علمت أن والده هو من قام بتعذيبه، بالإضافة إلى جثة أخرى لرجل عجوز يعيش بمفرده، مات داخل شقته بعد تعرضه لغيبوبة سكر، وبعد انبعاث رائحة الجثة كسر عليه الجيران باب الشقة، وتم نقله إلى المشرحة، وقمت بتشريحه، وبعد مرور 20 يوماً، حضر إلى المشرحة شاب يرتدى جلباباً أبيض قصيراً ويطلق لحيته، ويمسك بمسبحة فى يده، وسأل عن والده، ولم أتمالك أعصابى، فنهرته وانفعلت عليه بشدة، وطلبت منه تغيير ملابسه وقص لحيته حتى لا يسىء للدين الذى أوصانا بالوالدين.
■ هل شاركت فى تشريح جثث الأحداث السياسية التى شهدتها البلاد مثل فض اعتصامى رابعة والنهضة وغيرهما؟
- لا، بسبب وجودى فى دورة تدريبية خاصة بالطب الشرعى، لكننى حضرت تشريح جثث ضحايا الحرس الجمهورى.
■ كم سنة قضيتها فى الطب الشرعى، وكم جثة قمت بتشريحها تقريباً؟
- أعمل منذ 4 سنوات، وقمت بتشريح نحو 1000 جثة، والكشف على 3000 حالة، ما بين اغتصاب وهتك عرض وشروع فى قتل، بجانب فحص أكثر من 10 آلاف سلاح نارى مرتبطة بقضايا قتل، وآتى بحق الأموات ممن قتلوهم، لذلك أتمتع بنوم هادئ جداً، ولم أر كوابيس فى منامى منذ عملى بالطب الشرعى حتى الآن، وحياتى فى منتهى السعادة.