فيما تتصدر القوات البرية والجوية المعركة الدائرة مع تنظيم "الدولة الاسلامية" (داعش) في العراق وسوريا، تتناول معركة اخرى تدور في الكواليس احد اهم الاسئلة التي تشغل بال الحياة الدولية، وهو: ما هي الدولة بالضبط ؟
يتفق كل السياسيين والخبراء والمعلقين على شيء واحد، وهو ان "الدولة الاسلامية" ليست دولة بالمفهوم المتعارف عليه، بل انها تنظيم ارهابي ليس الا.
وهذا يبدو واضحا جدا، فمسلحو التنظيم صوروا انفسهم وهم يقطعون رؤوس اسراهم، كما نهبوا المدن والقرى التي استولوا عليها وقتلوا او هددوا بقتل كل من يخالف نظرتهم المتشددة للاسلام. وقد سرقوا اراض من سوريا والعراق. لذا، فليس هناك اي احتمال بأن يحصل هذا التنظيم على عضوية منظمة الامم المتحدة او اي منظمة دولية اخرى.
وبذا تستطيع الولايات المتحدة قصف مسلحي تنظيم "الدولة الاسلامية" دون ان تنتهك بذلك اي من المبادئ الاساسية للقانون الدولي، وخصوصا ما جاء في ميثاق الامم المتحدة من ان "على كل الدول الاعضاء الامتناع في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستخدام القوة او استخدامها ضد السلامة الاقليمية والاستقلال السياسي لأي دولة اخرى."
ولكن مع ذلك هناك مشكلة في الاسلوب الذي يتم به التعامل مع تنظيم "الدولة الاسلامية"، فمن الصعب القاء القنابل على ارض ما دون ان يتهمك احد ما بانتهاك "سيادته الاقليمية واستقلاله السياسي."
كيف يصبح كيان ما دولة ؟
(1) بحصوله على عضوية الامم المتحدة. ويعتبر هذا الهدف الاسمى للكيانات الطامحة بأن تصبح دولا، ويتطلب الحصول على موافقة مجلس الامن ومن ثم على اصوات ثلثي الدول الاعضاء في الجمعية العامة للمنظمة الدولية.
(2) بحصوله على اعتراف. فلو اخفق كيان ما على الحصول على عضوية الامم المتحدة، بامكانه السعي نحو الحصول على اعتراف اكبر عدد ممكن من الدول بما يمكنه من التصرف كدولة بالامر الواقع.
(3) ببناء علاقات تجارية مع العالم الخارجي. فلو كان لكيان ما اصدقاء على المستوى الدولي، يستطيع ان يبرم عقودا تجارية. اما الاعتراف السياسي، فقد يأتي بعد ذلك اذا كان له ضرورة اصلا.
ففي العراق على سبيل المثال، طلبت الحكومة العراقية الحالية رسميا من الولايات المتحدة وغيرها مساعدتها في قتال (داعش)، مما يكسب الحملة الجوية التي تستهدف التنظيم في العراق صفة شرعية قانونيا وسياسيا.
ولكن الامر يختلف جذريا فيما يخص سوريا. فالرئيس بشار الاسد ما زال رئيسا للجمهورية العربية السورية، وسوريا ما زالت دولة ذات سيادة. لم يطلب الرئيس الاسد من احد مساعدة بلاده، ولم يوافق على الضربات الجوية الخارجية على اهداف داخل سوريا.
ولكن، ورغم ذلك، قال الرئيس الامريكي باراك اوباما مؤخرا "لقد اخبرنا النظام السوري بأنه من مصلحته الامتناع عن التصدي لقواتنا اثناء قيامها بمهماتها ضد داعش في الاجواء السورية. عدا ذلك، ليس هناك احتمال بأن ندخل في تحالف مع الاسد، فهو لا يتمتع بمصداقية في سوريا."
مما لا شك فيه ان سوريا تتمتع بكل مقومات الدولة، ولكن الولايات المتحدة وحليفاتها لا تعتقد ان الحكومة السورية تتمتع بشرعية، ويبدو ان هذا كاف لأنتهاك ابسط حقوق سوريا السيادية اي ان تصبح لا دولة. ومن الجدير ذكر ان الدول الاوروبية الغربية - بما فيها بريطانيا - لم تشارك في قصف اهداف في سوريا رغم انضمامها الى التحالف المناوئ "للدولة الاسلامية."
يمكن اذن القول بوجود ثلاثة مفاهيم مختلفة للدولة في هذا المقال:
سوريا: دولة عضو في الامم المتحدة ذات حدود معترف بها وسيطرة جزئية على ارضها وحكومة لا تروق للغرب، ولذا يبدو انها تفتقر الى الحق في الدفاع عن ارضها.
العراق: دولة عضو في الامم المتحدة ذات حدود معترف بها وحكومة تروق للغرب ولذا يستطيع العراق الحصول على دعم دولي للدفاع عن اراضيه.
"الدولة الاسلامية": اعلنت الخلافة من جانب واحد، وليست عضوا في الامم المتحدة وليس لها حدود معترف بها. لها سيطرة جزئية على بعض الاراضي ولكن حكومتها لا تحظى باعتراف دولي وليس لها الحق في الدفاع عن ارضها.
وفيما لا تؤيد اي دولة ادعاءات "الدولة الاسلامية" بالسيادة، تؤكد لنا هذه الادعاءات ان لا وجود لتعريف متفق عليه للدولة. فاذا وجهنا السؤال "ما هي الدولة؟" الى سياسي ومحام وعالم اجتماع واقتصادي، سنحصل على اربع اجابات مختلفة.
هل تعتبر الكيانات التالية دولا؟
كوسوفو: اعلنت استقلالها من صربيا في 2008 بعد فترة من الادارة الدولية. معترف بها من قبل اكثر من 100 دولة، ولكن روسيا مصممة على منعها من الحصول على عضوية الامم المتحدة.
الاراضي الفلسطينية: اعلنت منظمة التحرير الفلسطينية استقلالها عام 1988، وهي ممثلة الآن في الامم المتحدة بصفة دولة مراقبة غير عضو. معترف بها من قبل اكثر من 100 دولة، ولكن لا تعترف بها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا الدول ذات العضوية الدائمة في مجلس الامن.
ابخازيا: انفصلت عن جورجيا في 1999، ومعترف بها من قبل روسيا وثلاث دول اخرى. تعتمد اقتصاديا على روسيا.
الصومال: عضو كامل في الامم المتحدة، وتحظى باعتراف واسع، ولكنها تفتقر الى حكومة مركزية مؤثرة فيما اعلنت اجزاء منها الاستقلال.
في ثلاثينيات القرن الماضي، جرت محاولة لتقنين مفهوم الدولة في معاهدة واحدة، هي ميثاق مونتفيديو الذي ينص على الشروط الاربعة التي ينبغي على الدولة الوفاء بها وهي:
سكان دائمون
ارض معترف بها
حكومة
القدرة على اقامة علاقات مع غيرها من الدول
كما حاول ميثاق مونتفيديو بتقييد السياسيين بالقانون باشتراطه "ان يكون الوجود السياسي للدولة مستقلا عن الاعتراف بها من قبل دول اخرى."
ليس هناك الكثير في ميثاق مونتفيديو مما يرفض منح صفة الدولة "للدولة الاسلامية" او اي جماعة عنفية اخرى لها القدرة على الاستيلاء على اراض وترويع سكانها. فالميثاق يفتقر الى اي بعد اخلاقي.
ولكن "الدولة الاسلامية" كما هو مبين اعلاه لا تعتبر دولة بالمفهوم الكامل. كيف يمكن منعها من التمتع بالاعتراف؟ ليس بالاستناد الى اي بند قانوني، بل الى القاعدة الاخلاقية القائلة إنه لا ينبغي مكافأة العنف والارهاب. فالسياسة توفر البعد الاخلاقي الذي يفتقر اليه القانون.
ولكن حتى هذا البعد الاخلاقي ليس شموليا بأي حال من الاحوال.
فكوريا الشمالية على سبيل المثال دولة تسجن الآلاف من سكانها مجرد للاشتباه في ولائهم، وتهدد مرارا بشن حرب نووية، وتترك الملايين من ابنائها يموتون جوعا. ولكن مع ذلك، يلتقي الدبلوماسيون الامريكيون بنظرائهم من كوريا الشمالية في شتى المحافل الدولية. ولذا، تعتبر كوريا الشمالية عمليا دولة كاملة المقومات.
تمثل تايوان عكس ذلك. فلتايوان تاريخ يعود الى ثلاثة عقود تمتعت فيه بالرخاء تحت ظل حكومات منتخبة تلتزم بالمواثيق والاتفاقات الدولية وتحترم حقوق سكانها. ولكن تايوان ليست عضوا في الامم المتحدة ولا تعترف بها الا حفنة من الدول. ولا تستطيع تايوان استخدام اسمها في المحافل الرياضية.
لكل مثال هناك مثال آخر معاكس له تماما، ولذا يبدو اننا نعيش في خضم كيانات مختلفة تكاد او لا تكاد تفي بالشروط المتغيرة دوما لان تكون دولا او لا تكون.
ان المعركة العسكرية مع (داعش) معركة خطرة ومخيفة بالنسبة للمتأثرين بها مباشرة. مقارنة بهذا المعركة، يعتبر صراع الافكار حول مقومات الدولة متحضرا جدا، ولكن هذا الصراع قضى على اسطورة وجود فكرة موحدة لمفهوم الدولة. اما تأثيرات ذلك، فستستمر لاجيال عديدة.