سواء كان الأمر يتعلق بتصميم سيارة أسرع من الصوت، أو بمساعدة مكفوفي البصر على الرؤية، أو بصنع تاريخ استكشاف الفضاء؛ دائما ما يدور السؤال: ما الذي يمكن لنا أن نتعلمه من العقول العظيمة التي وقفت وراء تحقيق هذه الإنجازات الكبرى؟
في مجموعة من مقالاتنا حول "العبقرية التي تقف وراء الإنجازات"؛ نأخذكم في رحلة داخل عقول الأشخاص الذين جعلوا المستحيل ممكنا. فسواء كان الأمر يتعلق بتصميم أسرع مركبة تسير على الأرض على الإطلاق، أو بمساعدة المكفوفين على الرؤية، أو بصنع تاريخ استكشاف الفضاء، فإن النجاح في كل هذه الأمور يستند إلى الارتقاء بمستويات المعرفة إلى ذُرى جديدة.
والسؤال هنا: ما هي الدروس التي يمكن لنا استخلاصها من عقول الأشخاص الذين وقفوا وراء تحقيق هذه الإنجازات؟ في هذا الصدد، خلصنا إلى ستة دروس استقيناها من الأشخاص والمشروعات التي وردت في هذه المجموعة من المقالات.
الدرس الأول: التحديات الجديدة تتطلب طرقا جديدة للتفكير
تبدو مركبة "بلدهاوند إس إس سي"(Bloodhound SSC) مزيجا من سيارة وطائرة مقاتلة وسفينة فضاء، ويسعى القائمون عليها إلى أن تصبح أول مركبة تسير على الأرض وتكسر سرعتها في الوقت نفسه حاجز الألف ميل في الساعة.
من بين التحديات الرئيسية التي كانت متمثلة في هذا الصدد؛ تصميم الإطارات الخاصة بتلك المركبة. هنا كان السؤال؛ كيف يمكن للمرء ابتكار أسرع إطارات سيارات في التاريخ، وجعلها مستقرة وجديرة بالثقة عندما تسير المركبة بسرعة تفوق سرعة الصوت؛ وكل ذلك بموارد محدودة؟
وبحسب ما يقول مارك تشابمان كبير المهندسين المسؤولين عن مشروع "بلدهاوند إس إس سي"؛ فإنه بعد الكثير من المداولات وبلورة الأفكار المبتكرة، تلك التي أدت إلى توسيع نطاق المعرفة الإنسانية في ما يتعلق بما يُعرف بتكنولوجيا المواد، قرر فريق العمل أخذ خطوة إلى الخلف، وتغيير الطريقة التي كان أفراده يحاولون من خلالها حل المشكلات التي تواجههم.
ويستطرد تشابمان قائلا: " في حقيقة الأمر، لم يكن هناك سوى القليل للغاية من الأمور الجديدة في ما طورناه. ما كان فريدا في هذا الإطار هو الكيفية التي طبقنا بها التقنيات" التي استخدمناها.
وفي هذا الشأن، تبنى فريق العمل نهجا يُطلق عليه اسم "التصميم من خلال التجارب"، وهو أسلوب لحل المشكلات يعتمد على الرياضيات، ويتمثل في إجراء الكثير من التجارب المحدودة، ومن ثم النظر إلى الإحصائيات الناتجة عنها مجتمعة.
وفي شرحه لذلك يقول تشابمان: " بينما بقينا نضرب رؤوسنا في الجدار؛ ربما لشهرين أو ثلاثة أو أربعة أشهر؛ خرجنا فجأة بتصميم لإطار سيارة يمكن أن يكون متماسكا وقويا بما فيه الكفاية".
الدرس الثاني: دع البراهين تُشكل وجهة نظرك
مثل أقرانه، كان العالم الجيوفيزيائي ستيفن جاكوبسِن - الذي يعمل في جامعة نورث ويسترن الأمريكية - يعتقد أن المياه الموجودة على الأرض نشأت بفعل سقوط المذنبات على سطح كوكبنا.
لكن بعد أن دراسة الصخور التي سمحت للعلماء بالتمعن في ما جرى في الماضي، اكتشف جاكوبسِن وجود مياه كامنة بداخل ما يُعرف بـ"الزبرجد الزيتوني"، وهو معدن شديد الزرقة مؤلف من سيليكات الحديد والمغنيسيوم، يوجد في طبقة من طبقات الأرض، تحمل اسم الوشاح الأرضي، وهو ما يشير إلى إمكانية أن تكون المحيطات شقت طريقها تدريجيا خارجةً من باطن الأرض، قبل قرون عديدة.
ويقر جاكوبسِن قائلا : "قضيت وقتا عصيبا للغاية في إقناع الآخرين". ولكن دليلين علميين مهمين كُشف عنهما النقاب عام 2014 بدا وأنهما يعززان وجهة النظر هذه. على كل الأحوال؛ سيكشف الزمن مدى صحة النظريات الجديدة في هذا الشأن، وربما سيشهد المستقبل مزيدا من التحولات المتعلقة به.
لكن جاكوبسِن يقول: "التفكير في حقيقة أنك ربما تكون أول شخص يرى شيئا ما للمرة الأولى، هو أمر لا يحدث كثيرا، وعندما يحدث يكون مثيرا."
الدرس الثالث: الكد يمثل 99 في المئة من العبقرية
تسعى الباحثة شيلا نيرنبرغ، التي تعمل في جامعة كورنل الأمريكية، لابتكار جهاز تعويضي جديد لعلاج فقدان البصر. وتمثل الأمر المحوري بالنسبة لهذا الجهاز في فك الشفرة التي يتم من خلالها نقل المعلومات من العين إلى الدماغ.
وتقول نيرنبرغ: "بمجرد أن حققت ذلك، لم يعد بوسعي تناول الطعام، أو الخلود إلى النوم. كل ما كنت أريد فعله هو العمل".
وتمضي الباحثة بالقول: "في بعض الأحيان يصيبني الإنهاك وينفد ما لدي من طاقة. لكنني أتلقى بعد ذلك رسالة بالبريد الإليكتروني من قبل شخص ما في أزمة، أو آخر يعاني من مرض الضمور البقعي أو الشبكي. لم يعد بوسع هؤلاء رؤية وجوه أطفالهم، وما شابه ذلك. كيف يمكن لي أن أشكو؟ يمنحني ذلك الطاقة لكي أعود (للعمل) وأواصل ما أقوم به."
الدرس الرابع: الإجابة لا تأتي دائما على حسب توقعاتك
قضت سيلفيا إيرل عقودا كاملة وهي تحاول أن ترى المحيط من خلال عيون جديدة. وكانت "الآلة الحلم"، بالنسبة لهذه الباحثة تتمثل في ابتكار غواصة يمكن أن تنقل العلماء إلى أعمق نقطة في قاع المحيط.
هنا يكون السؤال: أي نوع من المواد يمكن أن يكون الأكثر قدرة على الصمود في وجه أنماط الضغط التي يمكن أن يواجهها المرء على عمق آلاف الأميال تحت سطح المحيط؟
وتقول إيرل :"قد تكون هذه المادة هي الفولاذ، أو التيتانيوم، أو نوع ما من الخزف، أو أحد أنواع شبكات الألومنيوم. لكن الزجاج هو المادة الأكثر أهمية."
وبحسب تقديرات هذه الباحثة، فإن وجود نطاق زجاجي يتراوح سمكه ما بين أربع إلى ست بوصات (10 – 15 سنتيمترا) يتعين أن يكون كافيا لتأمين عملية استكشاف تلك الأعماق السحيقة للمحيط، التي تحلم إيرل بالتعرف على طبيعة الحياة البحرية الموجودة فيها.
ويقول توني لوسون مدير قسم الهندسة؛ المسؤول عن الانشطة التي تقوم بها إيرل في شركة "ديب أوشن آند إكسبلورايشن ريسيرش مارين"، وهي شركة تعني بتطوير التقنيات المستخدمة تحت الماء، إن الزجاج هو أقدم مادة عرفها الإنسان، ولكنه أحد أقل المواد التي يفهم البشر طبيعتها في الوقت نفسه.
ويضيف لوسون أن للزجاج "تركيبا جزيئيا يموج بالفوضى، كما لو كان – جزئيا – أحد أنواع السوائل، وذلك بدلا من تلك التشابكات المنظمة التي توجد على الأغلب في المواد الصلبة الأخرى. نتيجة لذلك، عندما يتعرض الزجاج للضغط على نحو متساوِ من مختلف الجهات، كما سيكون الحال عليه في أعماق المحيط، تتراص الجزئيات معا بالقرب من بعضها البعض بما يؤدي لتشكيل هيكل أكثر إحكاما.
الدرس الخامس: القليل من الحظ يستمر طويلا
في حدث قوبل بالترحيب والإشادة؛ باعتباره أحد أكبر قصص النجاح في تاريخ استكشاف الفضاء، تُوجت 20 سنة من التخطيط في عام 2014 بإتمام اللقاء في المكان والزمان المحدديّن تقريبا، بين المسبار "فيلة" والمذنب "67 بي" على مسافة تبعد أكثر من 300 مليون ميل (480 مليون كيلومتر) من كوكب الأرض.
وبحسب ما يقول ستيفان أولامك، المسؤول عن برنامج المسبار "فيلة"، فإن التحدي الأكبر في هذا الشأن تمثل في كيفية وضع تصميم لمسبار يُفترض أن يهبط على جسم ليس لدى العلماء سوى معرفة محدودة بطبيعة تركيبه.
ويوضح أولاميك ذلك بالقول: "لم يكن لدينا أي فكرة عن حجمه أو دورة الليل والنهار على سطحه، وهي الدورة التي تؤثر في تصميم (المسبار) من الوجهة الحرارية. لم يكن لدينا فكرة عن (قوة) الجاذبية على سطحه، ومن ثم (لم تكن هناك فكرة حول) السرعة التي سيصطدم بها المسبار (بالمذنب). كما لم يكن لدينا علم بالكيفية التي يبدو عليها سطح المذنب".
وهكذا تعين على العلماء ابتكار تصميم ذي معايير يمكن أن تتماشى مع مجموعة واسعة للغاية من الاحتمالات فيما يتعلق بالبنى أو الهياكل التي قد يتخذها المذنب، ولكن هذه المعايير استندت كلها إلى توقعِ ذي مصداقية لا بأس بها، مفاده أن المذنب يتخذ شكلا أشبه بثمرة بطاطا مستوية، وأنه ذو سطح مستوٍ بما يكفي للمسبار للهبوط عليه.
لكن حتى مع ذلك، لم تمض الأمور بحسب الخطة الموضوعة تماما، إذ كاد عقدان من التخطيط الدقيق أن يذهبا هباءً في غضون الدقائق التي حط فيها المسبار على سطح المذنب. فالحراب الخاصة بتثبيت "فيلة" على السطح لم تنطلق كما كان مخططا، بل إنها ارتطمت بالمذنب وارتدت عنه قبل أن تستقر بداخل سطحه الجليدي، ومن ثم بدأ المسبار بنجاح بث إشارات تحمل البيانات إلى الأرض، حيث مبتكروه الذين غمرهم الارتياح بعد نجاح المهمة.
الدرس السادس: العبقرية عصية على التعريف
ترى الباحثة شيلا نيرنبرغ أن كلمة "العبقرية" هي "لفظة مضحكة". وتمضي نيرنبرغ قائلة: " أنا اتجاهلها على نحو ما وأمضي في حياتي. المرء يعكف فقط على القيام بواجباته على نحو مستقل عن أي صفة تُلصق به. لا أدري حقا كيف يمكن أن يتسنى لي شرح هذا الأمر بطريقة أخرى."