كل شىء به داخل وخارج. عالم الأشياء: المنازل والمنتجات، والعالم الإنسانى: الجسد والمجتمع والسياسة. وقامت بعض النظم بإعطاء الأولوية للخارج على الداخل من أجل الظهور والبريق وإخفاء المستور. وتتعاون مع القوى الخارجية. فالخارج يقوى بعضه بعضاً. والداخل ليس له إلا الحركات السرية فى الداخل تعتمد عليها لتغيير النظام سلماً أو عنفاً إذا ما حان الوقت وواتت اللحظة. فالإمبراطوريات تتعاون وتتساند كما حدث فى الحرب العالمية الأولى بين الإمبراطورية العثمانية وألمانيا، والنظم النازية والفاشية: ألمانيا وإيطاليا واليابان، فى الحرب العالمية الثانية، وبين النظم الرأسمالية التى تحكمها ديكتاتورية رأس المال، فرنسا وإنجلترا وأمريكا.

واعتنت بعض النظم السياسية ببناء الخارج قبل الداخل مثل يوليوس قيصر، الإسكندر الأكبر، نابليون بونابرت، عبدالناصر، فكان سرعان ما تهاوت هذه النظم بلا أساس حتى وإن بقيت بعد ذلك فى صيغة قانون رومانى فى العصر الرومانى أو ثقافة تنويرية فى العصر اليونانى أو قوانين اشتراكية فى مصر والوطن العربى. تعتمد هذه النظم على بناء الخارج قبل الداخل.

وكانت النتيجة هزيمة ١٩٦٧. وكانت إعادة بناء الداخل بعدها أحد عوامل نصر ١٩٧٣. وكان إهمال الداخل فى العقود الثلاثة الأخيرة أحد عوامل الثورة الشعبية فى يناير ٢٠١١. وبعد ثلاث سنوات من عدم استقرار الثورة يبدو أن الاختيار أصبح إعادة بناء الخارج خاصة إعلامياً من أجل تحسين صورة مصر. هو الاختيار عن طريق الأسفار المتعددة غرباً وشرقاً، فى أوروبا والولايات المتحدة، فى روسيا والصين لمعرفة أسباب تعثرنا بعد أن كنا بدأنا مع كوريا الجنوبية والهند فى نفس الفترة. وما إن تنتهى رحلة حتى يُرتبط بأخرى أو تعد دولة كبرى أخرى كالصين أو الاتحاد السوفيتى بالزيارة. ونهتم بالتقارير الدولية لحقوق الإنسان، وبتقارير الصحف الأجنبية، وبحضور المراسلين الأجانب وما يكتبون، وبتقارير الأمم المتحدة عن أوضاع الحريات العامة فى البلاد، معتقلين ومعذبين وبمظاهرات الطلاب وإضرابات العمال وتحركات الفلاحين.

وتقوم إعادة بناء الداخل أولاً على شيئين: الحريات العامة والخدمات الأولية. وتعنى الحريات العامة توفير حرية التعبير لكل التيارات السياسية والاتجاهات الفكرية فى البلاد، والاعتماد عليها فى ائتلاف وطنى عريض. ويكون الحكم ائتلافياً بين كل هذه التيارات والاتجاهات دون إقصاء باسم الأغلبية ضد الأقلية، وباسم الصندوق. فالتشاور لا يقصى أحداً حتى لو كان واحداً «وَشَاوِرْهُمْ فِى الأَمْرِ»، «وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ». والثانية توفير الخدمات العامة لكل الناس على التساوى من خبز نظيف يجده وبسهولة داخل بطاقة التموين أو خارجها، ومياه نظيفة للشرب، وصرف صحى، وكهرباء لا تنقطع، ومواصلات ميسرة لا يضيع المواطن فيها وقته أو حياته من المنزل إلى العمل، وإسكان لائق خارج العشوائيات، وتعليم سليم يجد فيه التلميذ فصلاً للجلوس، والطالب مكتباً فى الجامعة، وعلاجاً جيداً فى ضمان اجتماعى وطنى أو مهنى، وعمل يوفر له رزقاً يكفيه هو وأسرته بدلاً من مد اليد أو طوابير الهجرة أمام السفارات للحصول على تأشيرات الدخول لأوطان غيرهم للعمل أولاً ثم للحياة والاستقرار ثانياً.

والحجة فى إعطاء الأولوية للخارج عن الداخل المؤامرات الخارجية والتسلل عبر الحدود الذى سيدعم النظام ضد الحصار فى الخارج والعملاء فى الداخل كى يطمئن الناس وتستقر أحوال معيشتهم. فالمحرك الفعال خارجى وليس داخلياً. وتأمين البلاد من الخارج وليس من الداخل. والاستقرار فى الداخل يكون بالبحث عن الاستقرار فى الخارج فى عصر لم تعد فيه الحدود مغلقة. والفضائيات مفتوحة، وتأمين الإقليم والمنطقة يأتى قبل تأمين الأوطان. وتأمين حدود مصر فى ليبيا والشام وشبه الجزيرة العربية والسودان قبل تأمينها فى الداخل فى حوض وادى النيل والواحات وسيناء. فالوطن العربى ظهير مصر.

 والعالم الإسلامى ظهير الوطن العربى، ثلاث دوائر متداخلة. التكامل مع الوطن العربى ضرورى. فحدوده مفتوحة. يكوّن إقليماً جغرافياً تاريخياً واحداً. والتكامل العربى الإسلامى ضرورة. فهو فى الأطراف التى تشع على القلب، ويشع القلب عليها. التكامل مع الإقليم ضرورى بحدود مفتوحة. والتنسيق مع العالم المحيط ضرورى لأنه هو الذى يغذى الإقليم والوطن. على هذا النحو لا نخشى من الثورات أو الانقلابات أو الانتفاضات أو حتى المظاهرات المستمرة شهوراً وشهوراً. فالقلب آمن. والأجهزة كلها- الدموى والتنفسى والعصبى- تعمل بسلامة.

الاندفاع نحو الخارج دون الاعتماد على الداخل قد لا يكون مؤشراً صحياً. قد يكون تعويضاً. والصورة الإعلامية ليد بيضاء قد تكون تلميعاً لواقع أقل بياضاً. الاندفاع نحو الخارج قد يكون نقصاً فى الترابط الداخلى. إن الخارج يعلم كل شىء عن طريق أجهزة الاتصالات الحديثة. يعلم عن الداخل أكثر مما يعلم الداخل عن نفسه. والإعلام لدينا تقليد. وكلما أبدع الآخرون قلدنا. ومازالت المسافة بيننا قائمة. والصورة الإعلامية محدودة الأثر، ألواناً أو حركات. فالصورة رمز. ومن يعيش فى عالم من الرموز يعيش فى عالم من الأوهام. والاتفاقيات كلام على أوراق. والوقائع هى التى تحدد المصير.

 والصمت أكثر بلاغة من الكلام. فطالما هُزم الكلام وانتصر الصمت. الصورة أحياناً جزء من منطق الخداع مثل السراب. وكلما زاد الاعتماد على الخارج استقر القبض على الداخل. فالخارج نموذج فريد للخارج وحده. والداخل نموذجه التسرب الباطنى. فهو نموذج ثقافى اجتماعى تاريخى دينى: أولوية العامل الخارجى على العامل الداخلى، الحدس قبل البرهان، القلب قبل الحواس، والأب له الأولوية على الأسرة، والمدرس على التلميذ، والإمام على المصلين، والرئيس على المرؤوس، والله على العالم، و«سى السيد» على «أمينة» وباقى أفراد الأسرة. الذهاب إلى الخارج هو ذهاب إلى أعلى، لقاء مع الأبوى، أخذ النعم والعطايا وجلب الخير. من يعتمد على الداخل خارج النظام، ومن يعطى الأولوية للداخل على الخارج لن ينال شيئاً.

مع أن الناس فى أسهم قناة السويس الجديدة أعطوا الداخل وبحماس شديد، وردوا الوديعة القطرية بكرم وسخاء. واستطاع الريان باسم الدين جمع رؤوس الأموال من الداخل. وكذلك فعل الشريف ثم التوحيد والنور. وكان طلعت حرب باسم ثورة ١٩١٩ قد استطاع تأسيس اقتصاد مصرى وطنى بالاتجاه نحو الداخل. فبناء الداخل أولاً قادر على بناء مصر.

والاعتماد على الداخل يعتمد على المصالحة الوطنية، ونسيان المحاكم والقضايا والأحكام والسجون والمعتقلات والإعدامات والتفجيرات والعنف من أجل تضميد الجراح. فقد كُتب كثيراً عن «جرحى الثورة» وآن الأوان للكتابة عن «أصحاء الثورة». وبدلاً من كب الزيت على النار كب الماء على النار «عفا الله عما سلف». إن إعادة بناء الداخل قبل الخارج هى مسار جميع الثورات التى تريد أن تستمر. وإعادة بناء الخارج قبل الداخل مظاهرة إعلامية تنطفئ بعد اشتعالها. والحرارة الخارجية تنطفئ بمجرد خفض الحرارة الداخلية «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ».

نقلا عن المصري اليوم