عماد جاد
فجأة وبدون مقدمات أو علامات ظاهرة، دخل الرئيس عبدالفتاح السيسى مبنى الكاتدرائية المرقسية بالعباسية، مساء الثلاثاء الماضى، إبان صلاة عيد الميلاد المجيد، وقد أسر مشهد دخول الرئيس قاعة الصلاة جميع الحضور من عامة ونخب، مصريين وأجانب، رجال دين وشعب، فقد وقف الجميع مبهوراً بمشهد حضور الرئيس بنفسه إلى الكاتدرائية، وقد تجاوب الجميع بتلقائية شديدة مع مشهد حضور الرئيس
فالذين كانوا يرتلون ويتلون صلوات ما قبل القداس الإلهى أوقفوا الترتيل، ونزل البابا السلالم ليلاقى الرئيس فى القاعة، توقفت مشاهد الصلاة ووجه الرئيس كلمة للحضور كانت أشبه برسالة للعالم كله، قائلًا: «كان ضرورى أحضر لكى أهنئكم بالعيد، مصر علمت الإنسانية وسوف تواصل دورها». قضى الرجل حوالى إحدى عشرة دقيقة فى الكاتدرائية، ولكنه سجل من خلال هذه الفترة القصيرة سطوراً فى كتاب الوطن
حقق ما لم يحققه أى رئيس غيره وفى ظروف غاية فى الصعوية والتعقيد. فقد سطر السيسى فى كتاب الوطن أنه أول رئيس مصرى يشارك الأقباط عيدهم فى مقر الكاتدرائية المرقسية بالعباسية، لم يكتف الرجل بطرق من سبقوه من عبدالناصر إلى مرسى والتى كانت تعتمد على توجيه رسالة للبابا وأقباط مصر والخارج أو إيفاد مندوب عنه لحضور الصلاة، بل ذهب بنفسه ليقدم التهنئة للأقباط والمشاركة فى جزء من صلاة العيد.
الجديد فيما فعله السيسى ليس الزيارة فى حد ذاتها ولكن فى شجاعة القرار، تلك الشجاعة التى لم تتوفر لدى كل من سبقوه من عبدالناصر إلى مرسى فى التعامل مع قضية علاقة بالأقباط والتهنئة فى الأعياد، فالرئيس الراحل جمال عبدالناصر والذى كان يتمتع بكاريزما وشعبية هائلة لم يتخذ قرار الذهاب إلى المقر البابوى أثناء الصلاة لتهنئة صديقه الراحل البابا كيرلس السادس، ولا كانت لديه جرأة الإعلان عن مساهمة الدولة فى بناء الكاتدرائية المرقسية بالعباسية، فحسب ما كتب محمد حسنين هيكل، الذى نقل له رغبة البابا الراحل فى بناء مقر يليق بالكنيسة المصرية
وافق على ذلك بشرط عدم الإعلان عن ذلك وإضافة تكاليف البناء على عمليات تابعة لشركات ومؤسسات القطاع العام، وأيا كان المبرر فلم تكن لدى عبدالناصر بكل ما كان يتمتع من كاريزما وشعبية، وما هو معروف عنه بالانحياز لقيمة المواطنة والصداقة الشخصية التى جمعته بالبابا كيرلس السادس، لم تكن لديه الشجاعة الكافية لإعلان ذلك ولو كان قد فعلها فى ذلك الوقت لكان قد أرسى مبدأ مهما فى قيمة المواطنة ولاختصر الكثير من مسيرة الوطن نحو تكريس هذه القيمة.
جاء السادات فاقداً كاريزما عبدالناصر فوجد فى تديين المجال العام البديل الذى يمكنه من حصد التأييد المفقود، فأسس الجماعة الإسلامية وأمدها بالسلاح لضرب التيارين الناصرى واليسارى فى الجامعات المصرية، وبدأ فى إعادة الإخوان من الخليج والإفراج عنهم من السجون، شرع فى تطبيق الشريعة الإسلامية بالحدود، لقب نفسه بالرئيس المؤمن والدولة بدولة العلم والإيمان، تخلى عن مسؤوليات الدولة تجاه مواطنيها الأقباط فدفع بهم دفعاً إلى حضن الكنيسة، فتمدد دورها السياسى، وضع البلاد على حافة حرب أهلية لم تتراجع إلا بقتله شخصياً على يد التنظيم الذى أسسه. والمرة الوحيدة التى زار فيها الكاتدرائية، صلى الظهر داخلها فى محاولة «لإغاظة البابا شنودة» حسب ما سجل هيكل فى حوار السادات مع زوجته السيدة جيهان بعد العودة مباشرة.
جاء مبارك وحافظ على معادلة السادات فى تديين المجال العام وتعامل مع المصريين الأقباط ليس من منطلق أنهم مواطنون مصريون بل باعتبارهم طائفة دينية يجرى التعامل معهم من خلال بوابة الكنيسة، فقد اختصر الأقباط فى الكنيسة وتعاون فى تعظيم دورها السياسى والاستجابة لمطالب الكنيسة على حساب قيمة المواطنة، ولم يزر مبارك على مدار ٣٠ سنة الكاتدرائية سوى مرتين للمشاركة فى تشييع رمزين من «النخبة السياسية».
أما محمد مرسى فقد تجاوب مع صوت رموز الجماعة وبعض القيادات السلفية التى حرمت عليه تهنئة الأقباط بالعيد، ومن ثم بعث برئيس ديوانه محمد رفاعة الطهطاوى الذى حضر فى منتصف الصلاة وغادر المقر البابوى مسرعاً بعد أقل من عشر دقائق وكأنه كان يهرب من شىء ما. بذل المستشار الجليل عدلى منصور خلال سنة وجوده فى السلطة جهدا هائلا فى بناء دولة المواطنة وذهب إلى المقر البابوى صبيحة اليوم السابق على العيد وقدم التهنئة بنفسه لقداسة البابا، وهو أمر متطور مقارنة بكل من سبقوه من رؤساء.
قيمة ما أقدم عليه الرئيس عبدالفتاح السيسى أنه شكل سابقة تاريخية لم يسبقه رئيس مصرى إليها، فقد امتلك شجاعة القرار، وأقدم على ما لم يقدم عليه عبدالناصر، قدم مصالحة تاريخية بين الدولة والأقباط فى علاقة تدهورت منذ عام ١٩٧٠ وتحديداً مع مجىء السادات إلى السلطة. قيمة ما أقدم عليه السيسى أنه سهل على من سيأتى بعده مواصلة البناء على أرضية المواطنة. تحية تقدير واحترام للرئيس عبدالفتاح السيسى على خطواته التاريخية فى بناء وطن لجميع المصريين وإعادة الاعتبار للهوية الوطنية المصرية.
نقلآ عن المصري اليوم