بقلم: د. عبدالخالق حسين
قال العلامة ويل ديورانت (Will Durant) في سِفره العظيم (قصة الحضارة)، "أن استمرار الحضارة ليس مضموناً، فمازال هناك احتمال العودة إلى الهمجية والعصور الحجرية". وإذا كان الخطر إبان الحرب الباردة متأتٍ من الحرب النووية بين المعسكرين العملاقين، الشيوعي والرأسمالي، فاليوم الخطر هو من فاشية العصر، الإرهاب الإسلامي الوهابي. فما يجري من تصعيد للأعمال الإرهابية في مختلف مناطق العالم من قبل المتطرفين الإسلاميين وباسم الإسلام، دليل واضح على صحة ما قاله هذا العالم الموسوعي الكبير.
فالجريمة الإرهابية البربرية البشعة التي حصلت في باريس يوم الخميس (7/1/2015) من قبل أتباع المنظمة الإرهابية (الدولة الإسلامية- داعش)، على مقر مجلة "شارلي ابدو" الساخرة، وما حصل بعدها بيوم من هجوم على سوبرماركت يهودي، وراح ضحية الجريمتين المترابطتين 17 قتيلاً، هزت الضمير العالمي، شعوباً وحكومات، ودقت جرس الإنذار بالخطر الماحق على الحضارة، لذلك انطلقت تظاهرات في باريس يوم الأحد 11/1/2015، يتقدمها رؤساء سبعة وأربعين دولة، يداً بيد، لإدانة هذه الأعمال البربرية، كما وانطلقت في نفس اليوم تظاهرات تضامنية في كل أنحاء العالم شاركت فيها الملايين، للتعبير عن التضامن الأممي مع الشعب الفرنسي وحكومته ضد الإرهاب وما يتهدد حضارتنا من مخاطر جدية رهيبة يجب عدم الاستهانة بها، أو التساهل معها.
ولهذا التضامن الواسع وعلى كل المستويات وفي مختلف أنحاء العالم، دلالته الحضارية العميقة، فهو إشارة إلى أن الشعوب والحكومات ليست مستعدة للخنوع والخضوع لابتزاز هؤلاء الإرهابيين، يهددون الحضارة البشرية، ومهما كانت الأسباب التي تدعيها التنظيمات الإرهابية ومن يقوم بإيجاد المعاذير لها.
وخاصة إذا كان هذا الإرهاب موجهاً ضد حرية التعبير التي تعتبر ذروة الحريات التي وفرتها الديمقراطية الغربية كأسلوب حياة للإنسان المعاصر المتحضر، لا تقل قيمة عن الحياة نفسها، وليسوا مستعدين بالتنازل عنها لإرضاء نزوات أناس يريدون إعادة المجتمعات لـ 14 قرناً إلى الوراء أو إلى العصور الحجرية.
غني عن القول، أن هذا الإرهاب هو ليس نتاج تصرفات فردية أو مجموعات صغيرة تتصرف من تلقاء ذاتها، بل هو نتاج تنظيمات إرهابية واسعة ينتمي إليها مقاتلون يعدون بمئات الألوف، تم تحويلهم إلى روبوتات مستعدة للموت بسبب تعريضها لغسيل الدماغ بأيديولوجة التطرف الإسلامي الوهابي، و وراءها حكومات تغذيها عقائدياً، وتدعمها مالياً وإعلامياً وبطرق ملتوية خبيثة تتظاهر بمحاربة الإرهاب، ولكنها في نفس الوقت تدعمه بالخفاء، وتتمتع هذه العصابات بدعم شعبي بنسبة عالية تصل إلى 64% في بعض البلدان العربية والإسلامية حسب بعض استطلاعات الرأي.
ولكن المشكلة أن هناك أناساً نتوسم فيهم سلامة النوايا الحسنة، وغالباً ما يدينون الإرهاب، ومنهم ضحايا الإرهاب ومستهدفون منه، ولكنهم مع ذلك يعانون من ضبابية الرؤيا بسبب كرههم للغرب رغم أنهم يعيشون فيه، فيحاولون إيجاد المبررات والمعاذير لهذا الإرهاب وإلقاء اللوم على الضحايا.
ومن هذه المبررات التي طلع علينا بها البعض، أن مجلة (تشارلي أبدو) نشرت صوراً مسيئة لنبي الإسلام قبل ثلاثة أعوام. وقبلها بسنوات أقيمت ضجة ضد صحيفة دنيماركية ولنفس السبب، وعلى أثرها أقيمت تظاهرات احتجاجية ضد هذه الصحيفة، رافقتها اعتداءات الغوغاء ضد المسيحيين وحرق عدد من السفارات الغربية في البلاد العربية والإسلامية.
ففي الوقت الذي ندين فيه أية إساءة للمقدسات والرموز الدينية، كذلك ندين جميع الأعمال الوحشية البربرية ضد الأبرياء وضد حرية التعبير. لذلك نسأل هؤلاء: لماذا لا يتم الرد على هذه التصرفات المسيئة بالمثل؟ لماذا لا يتم الرد على القلم بالقلم، والفكر بالفكر، وكاريكاتير بكاريكاتير، لماذا يرد على القلم بالرصاص والمتفجرات وبالقتل والاعتداء على الناس الأبرياء العزل؟
فإذا كان المتطرفون الإسلاميون يردون على الفكر بالإرهاب فهذا دليل على إفلاسهم الفكري والأخلاقي وعدم ثقتهم بإمكانياتهم، وقوة دينهم في مواجهة الحجة بالحجة. فالإسلام كدين يعتنقه أكثر من مليار ونصف المليار من البشر، هل حقاً يتأثر برسم كاريكاتير تنشره صحيفة هنا، أو ينشر مقال أو كتاب ضد الإسلام هناك، ويحتاج كل هذه الضجة والإرهاب والأعمال الغوغائية؟ ألا تعتبر هذه الأعمال بحد ذاتها إساءة للإسلام نفسه ومن قبل المسلمين الجهلة؟
البادئ أظلم
ولنسأل: من البادئ؟ فالسبب الذي دفع هذه الصحف الغربية لنشر إساءات لرسول الإسلام هم الإرهابيون أنفسهم الذين ارتكبوا أبشع الجرائم الوحشية، من ذبح الأبرياء وأمام الكاميرات التلفزيونية وهم يصرخون بهستيريا (الله أكبر، لا إله إلا الله، محمد رسول الله)، ويبررون جرائمهم البشعة بنصوص من الكتاب والسنة، والذبح على الطريقة الإسلامية، الأمر الذي أدى إلى تشويه صورة الإسلام ونبي الإسلام وجميع المسلمين في العالم. ولذلك وكما يقول المثل: (البادئ أظلم). في العالم المتحضر تأني حرية التعبير على رأس الحريات، ونقد الأديان على رأس كل نقد، ولم يسلم منهم حتى الديانة المسيحية والمسيح نفسه، وحتى البابا لم يسلم من السخرية، ولكن المؤمنون بالمسيحية يقابلون كل ذلك برحابة صدر، لأن الحضارة الغربية وديمقراطيتها عودت شعوبها على روح التسامح والتعايش مع المختلف، وتقبل النقد ومهما كان جارحاً. وكثيراً ما شاهدنا رؤساء حكومات يُرجمون بالبيض الفاسد والطماطم دون أن يحاسبوا المتجاوزين. فهذه هي روح التسامح التي يمارسونها عملياً، على خلاف المسلمين الذين يدعو دينهم إلى التسامح (وجادلهم بالتي هي أحسن)، ولكنهم يمارسون العنف عملياً، ولا يتحملون حتى صورة كاريكاتير.
يحاول الاعتذاريون إيجاد المعاذير للإرهابيين، وكل حسب ظروفه وأنواعه، وأحياناً بشكل مضحك ومثير للسخرية. فالاعتداء على مقر مجلة (تشارلي أبدو) وقتل 12 صحفياً من طاقمها إضافة إلى قتل شرطيين (أحدهما مسلم)، كان بسبب نشر كاريكاتير مسيء للرسول محمد. ولكن في نفس الوقت يحاول البعض إلقاء التهمة في هذه الجريمة على إسرائيل بأنها هي وراءها للانتقام من الحكومة الفرنسية لأن الأخيرة اعترفت بحل الدولتين في الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي!! طيب، وماذا عن الهجوم على السوبر ماركت الخاص بالمواد الغذائية لليهود (كوشير)، هل إسرائيل كانت وراءه؟
وانبرر الإرهاب يتفير فجأة في حالة الإرهاب في العراق وحرب الإبادة فيه حيث قالوا أن السبب هو تهميش السنة في السلطة من قبل نوري المالكي رئيس الحكومة سابقاً، علماً بأن الإرهاب في العراق بدأ منذ 2003 وقبل أن نسمع باسم المالكي، واستمر حتى بعد تركه رئاسة الحكومة وإلى الآن. فهل هو بسبب توجيه الإهانة للرسول؟
كتب لي أحد القراء الكرام تعليقاً على مقالي الموسوم (الشر في خدمة الدين، والدين في خدمة الشر) قال بحق: "وهل العمل الاجرامي في لبنان يوم امس السبت [10/1/2015] في طرابلس وقتل حوالي 35 شخصا كان بسبب اهانة الرسول ايضا علما انهم جميعا مسلمون؟ ما هذا الذي يحدث يا دكتور في البلدان الاسلامية، وأين مشيخة الازهر التي استنكرت حادث باريس ثم في آخر الاستنكار تقول يجب عدم المساس بالرسول وكأنها تؤيد ما حدث من قتل الابرياء لأن لا يوجد طرق اخرى بالرد الا بالقتل مع الأسف."
وتأكيداً لتعقيب الأخ القارئ، فقبل شهر قام طالبان باكستان بقتل 140 تلميذاً وهم في عمر الورود، هل كان ذلك بسبب إهانة الرسول يا مشيخة الأزهر، ويا أيها المبررون للإرهاب؟
وماذا عما يجري من جرائم بشعة في نيجيريا من قتل الأبرياء بشكل عشوائي، واختطاف المئات من الطالبات وإجبارهن على الزواج من "المجاهدين" في تنظيم بكو حرام، وآخرها جريمة ربط طفلة عمرها 10 سنوات بحزام ناسف دون علمها بأنه حزام ناسف، و يفجرونها عن بعد في سوق مزدحم قتلت 19 وجرحت العشرات وأغلب الضحايا مسلمون، فهل كان ذلك بسبب توجيه الإهانة إلى الرسول أو الإسلام... وهناك المئات، بل والألوف من الأعمال الإرهابية التي حصلت وما زالت تحصل كل يوم، ومعظم ضحاياها أبرياء ومسالمون مثل ضحايا 11 سبتمبر 2001، وتفجيرات قطارات الأنفاق في لندن، ومحطة قطار في مدريد، وغيرها كثير وكثير، فهل أساء هؤلاء الضحايا إلى الرسول والإسلام؟
نطالب هؤلاء الإعتذاريين بالكف عن إيجاد المعاذير المضحكة، فبدلاً من اختلاق هذه الأعذار والمبررات، عليهم أن يتخذوا الاجراءات الصحيحة لوقف هذا الجنون لإنقاذ الإسلام الذي اختطفه الإرهابيون.
ما العمل؟
العمل أيها السادة هو ليس في إيجاد التبريرات وتبرير جرائم الإرهابيين، بل بالإجراءات التالية:
أولاً، العمل الجاد، وبالأخص من قبل رجال الدين إدانة الإرهاب، وإصدار الفتاوى بتحريمه واستخدام الحجة والمنطق في مواجهة الخصوم (وجادلهم بالتي هي أحسن). وهذه المسؤولية تقع بالأساس على مشيخة الأزهر لكونها أعلى مرجعية للإسلام السني، ولأن الإرهابيين هم سنة وتبنوا العقيدة الوهابية.
ثانياً، على رؤساء الحكومات العربية والإسلامية أن يحذوا حذو الرئيس المصري الشجاع، السيد عبدالفتاح السيسي، الذي دعا مشيخة الأزهر إلى الثورة لإصلاح الإسلام وتنقيته من العنف. (رابط الفيدو في الهامش)(1)
ثالثاً، تشجيع حرية التعبير للمثقفين في البلاد العربية والإسلامية، بنشر دراسات للإصلاح الديني، وفسح المجال لهم بنقد الدين ونقد الحكومات، والمطالبة بإيقاف العمل بما يسمى بآيات السيف أو القتال، وبالأحاديث النبوية التي تدعو للعنف (أغلبها ضعيفة)، خاصة وهناك نصوص دينية تؤيد هذا التوجه الإصلاحي مثل علم أسباب النزول الذي يؤكد على السياق التاريخي لهذه الآيات والأحاديث، وأن ذلك السياق لم يعد موجوداً في ظروفنا التاريخية الراهنة، لذا بطل العمل بها.
رابعاً، محاسبة المشايخ الذين ينشرون التطرف الديني، ويدعون للإرهاب مثل مشايخ الوهابية في السعودية، والشيخ يوسف القرضاوي في قطر، ورافع الرافعي و حارث الضاري في العراق. والضاري هو الذي قال: "القاعدة منا ونحن منها". كذلك محاسبة أولئك الذين يصدرون فتاوى سخيفة ومضحكة تثير السخرية على الإسلام وتشوه صورته، مثل فتاوى بول البعير في معالجة الأمراض، وإرضاع الكبير وغيرها، أدرج أدناه رابط لمقال الكاتب المصري المتنور، عادل نعمان في هذا الخصوص، بعنوان: (هيا نضحك على فتاوى السلف والتابعين)(2).
خامساً، لقد بات معروفاً لذى القاصي والداني، أن الحركات الإرهابية هي نتاج حكومات غنية مثل السعودية وقطر وتركيا، وتدعمها مالياً وعقائدياً وعسكرياً واستخباراتياً وإعلامياً. وكفى تستر الحكومات الغربية على جرائم هذه الحكومات لأسباب اقتصادية نفعية. أدرج أدناه رابط لبحث سفير أمريكي سابق بعنوان (السعودية والوهابية وانتشار الفاشية الدينية)(3)، يفضح فيه دور السعودية، ويذكر بالأرقام ما صرفته على نشر التطرف الديني الوهابي (87 مليار دولار خلال 25 سنة)، في مختلف أنحاء العالم. فالسعودية تمتلك المال والأيديولوجية الوهابية، وتنشر الإرهاب الديني لكي توقف أو تعطل المد الديمقراطي في المنطقة وإبقاء حكم العائلة الحاكمة الاستبدادي القروسطي المتخلف مدة أطول على جاثماً على صدور الشعب السعودي.
لا شك هناك إجراءات أخرى، ولكن بدون اتخاذ هذه الإجراءات فالنتيجة ستكون وخيمة على البشرية، وخاصة على العالم الإسلامي، وبالأخص على الجاليات العربية الإسلامية في الغرب.
abdulkhaliq.hussein@btinternet.com
http://www.abdulkhaliqhussein.nl/
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روابط ذات صلة
1- السيسي للأزهر: محتاجين ثورة دينية والدنيا كلها منتظرة كلمتكم
https://www.youtube.com/watch?v=o_Q_xoJG1eE
2- عادل نعمان: هيا نضحك على فتاوى السلف والتابعين
http://www.elwatannews.com/news/details/636820
3- كورتين وينزر: السعودية والوهابية وانتشار الفاشية الدينية
http://www.aafaq.org/malafat.aspx?id_mlf=11
The link to the original English version
http://www.mideastmonitor.org/issues/0705/0705_2.htm
4- حملة لادانة الهجوم الوحشي على صحيفة (شارلى ايبدو) والوقوف ضد مثيري النعرات العنصرية والكراهية القومية والدينية
http://ehamalat.com/Ar/sign_petitions.aspx?pid=690
5- رجاء بن سلامة: مسؤوليّتنا أمام الإرهاب باسم الإسلام : بيان
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=450116
6- بالفيديو.. أحد المشاركين باعتداءات باريس يبايع أبوبكر البغدادي
http://www.lebanon24.com/featured/details/982376?utm_source=Newsletter&utm_medium=Email&utm_campaign=January2014