الجمعة ٣٠ يناير ٢٠١٥ -
٣١:
٠٩ م +02:00 EET
أنبَا أنْطُونْيوس
القمص اثناسيوس جورج
لا يوجد مصري واحد معروف ومشهور في التاريخ المسيحي كله أكثر من أنطونيوس الكبير؛ بل أن سيرته ملمح من صياغة الهوية المسيحية في التاريخ القديم.. والمعجزة أن ذاك الذي ترك العالم وتحاشى كل رباطاته وعاش منفردًا في جبل قد صار مشهورًا ذائع الصيت في العالم كله، لأنه لم يتكلم عن الإيمان المسيحي؛ ولم يصنع له (دعاية) بلغة اليوم؛ لكنه بأعماله أظهر إيمانه (تكلم بأعماله وعمل بأقواله).
كان غنيًا؛ لكنه باع كل شيء وتبع المسيح، ولم تكن حياته قصبة تحركها الريح كما تشاء؛ لكنه مضى بوعي وإرادة تاركًا كل شيء من أجل تنفيذ عملي للوصية “اتبعني” متى ۲۱:۱.. فصار هو واقعًا إلهيًا على مستوى الحياة والقدوة وإنجيل حي مُعاش؛ لأنه لم يعرف الوصية ككلمات مجردة؛ بل كفعل وكنسمة حياة، أمسك بها في ثبات؛ وألقى نفسه على نعمة الله بالتمام.
استمد فلسفته الروحية من روح الإنجيل ووصيته، فعاشها وعمل بها كقانون حياة؛ ولم يحد عنها مهما ثقلت عليه الحروب؛ لكنها صارت له قوة دافعة ليمتد إلى ما هو قدام؛ وليتحسس الخيرات السماوية في حياة موصولة التيار بحياة مسيح البراري والأصوام؛ مسيح جبال التجربة والتجلي والجلجثة.
عاش أنطونيوس في البرية الجوانية وجاهد ضد الشياطين وكسب الصحراء للمسيح ونشر الرهبنة الأنطونية بصورة سريعة ومذهلة للعقل؛ لا يعرف أحد سر بداياتها ونموها إلا الذي عاشها.. كان فكره ساجدًا وعقله مستنيرًا وجسده ناسكًا وروحه عالية متوازنة، فصار أبا الرهبان وأبا اللاهوتيين وعلامة عظمى في ضمير الكنيسة المسكونية، وسيرته في جملتها ترجمة حية للاهوت الكريستولوجي الذي جسّده القديس أثناسيوس الرسولي؛ والتي وردت في سيرة القديس أنطونيوس وتضمنت الأدلة الحياتية الواقعية على لاهوت المخلص وعمله العجيب، وهي التي جعلت دعوته لا انعزالية هروبية أو نرجسية؛ لكنها دعوة روحية عاملة بالإيمان لطلب ملكوت الله بواسطة الطريق الضيق.
صارت سيرته وسيلة إيضاح عملية للرد على الهرطقات والبدع، ففي إطار صراعه مع الشيطان؛ انتصر في حروب البرية؛ وانتصر عندما أتى إلى الاسكندرية المدينة العظمى لمواجهة بدعة أريوس، وكذلك في زمن الاستشهاد، وكان نصره في حقيقته ليس نصره هو؛ بل نصر المخلص فيه.
أتت سيرته في إطار أدب السير (Biography) ضمن علم الأجيولوجيا المتعلق بقديسي الكنيسة؛ متضمنة الأسانيد الكتابية تأكيدًا على إنجيلية الرهبنة في التبعية وترك الغنى والترف والمال لحمل الصليب من أجل التجرد والتوزيع ومعاشرة الملائكة، فتتلمذ القديس على ملائكة علموه الجهاد وسلموه الزي وعمل اليدين، لذلك تسمت طغمته (ملائكة أرضيين أو بشر سمائيين)؛ ناسكًا بحسب الإنجيل متعلمًا من الكتب المقدسة، ذاكرته غنية بالكلمة، وبهذا قدم كاتب سيرته أفضل وأذكى رد على الهجوم في الادعاء بأن الرهبنة لا تنبع من فكر إنجيلي.
كان أنطونيوس حصيفًا حاضر الذهن وفي غاية الذكاء وغزارة الفهم والحفظ؛ لكنه لم يكن يجيد اليونانية، أما وجه العجب كان في رسائل الأباطرة له وفي اعتماده على المترجمين؛ وفي رفضه للمجد الباطل وفي تسليم حياته لله؛ الذي لم يجعله عاطل العقل، ماهرًا في الإرشاد والخبرة الروحية؛ متعلمًا من السموات؛ بحكمة لم تكن بشرية ويكفي النظر إليه.
أكدت سيرة أنطونيوس النارية على الوحدة والانسجام بين الرهبنة والكنيسة، وكيف صارت الرهبنة خط الدفاع الأول عن الكنيسة، كذلك أكدت على التوازن والاتساق، فأنطونيوس حينما خرج من مغارته التي عاش فيها عشرين سنة في عزلة كاملة؛ وُجد لا بدينًا مترهلاً ولا نحيلاً؛ وُجد لا ضحوكًا أو مكتئبًا؛ لكنه معتدلاً متعقلاً؛ وهذا هو التوافق بين حالته الطبيعية الأصلية والثبات الداخلي الكامل كأيقونة الله ومثاله.. وعندما بلغ ۱٠٥ سنة كان محتفظًا بنضارته، وعيناه لم تكلا ولم يفقد ولا ضرسًا من أسنانه، ويداه ورجلاه في صحة كاملة، صاحيًا باشًا، يعرف الله ويعرف نفسه ويعرف زمانه.
روحانيته وتكوينه ديناميكي، فلم يكن يرفض وجود علاقات له مع الآخرين أو مع المحتاجين؛ أو نحو الكنيسة العامة؛ لكنه ساند مَن أتوا إليه لطلب المساعدة والإرشاد والشفاء.. تحاور مع الفلاسفة، وراسل الأباطرة، وصنع المعجزات والسلام بين المتخاصمين، ودحض البدع، وافتقد الشهداء، وارتبطت سيرته ببولا أول السُواح وبالبابا أثناسيوس الرسولي وبالقديس ديديموس الضرير، وبالقديس مكاريوس الكبير وبتلاميذ كثيرين، لكنه ومع ذلك احتفظ بمسافة متوازنة حققت سلامة المعادلة... فعلاقته مع الأباطرة والسلاطين إنما كانت تتم عبر الرسائل، ومواجهته للهراطقة إنما كان يضع نفسه فيها خلف رؤساء الكنيسة؛ مبتعدًا عن حدود المكان والزمان؛ لكنه حاضر وفاعل بقوة دون أن يكون مرتبطًا بأي شيء، فاحتفظ بانسجامه الداخلي المتأصل في روحانية الرهبنة الفريدة القائمة على وحدة المعرفة والكيان.
فلننزع من قلوبنا أفكار الشر والظنون الخداعة التي تظلم العقل؛ كي نتفهم ونتأمل المعجزات العالية التي لأبينا العظيم أنطونيوس الذي صار لنا مرشدًا وميناء خلاص؛ ودعانا بفرح إلى الحياة الأبدية.. ولنثبت في الإيمان المستقيم على طريق هذا العنبر المزهر؛ مؤمنين أن الله سيفتح لنا عندما نقرع؛ وسنجد كلما نطلب؛ وسنأخذ كلما نسأل من الله إله أنطونيوس معيننا أجمعين.