بقلم: د. رشدي دميان
( أم القيح ) هو الإسم الذى يطلقه العامة من الشعب المصرى على ( بؤرة الصديد ) التى تتكون نتيجة لتكاثر وتجمع وتعفن الميكروبات الضارة فى جسم الإنسان ، وبالتالى تظهر على الجلد فى صورة ما يُعرف بالدمامل والبثور والتقيحات .
بداية أرجو أن أعتذر للقارئ عن هذه المقدمة التى أردت منها فقط أن أشير إلى أن الذى يصاب بمثل هذه الدمامل - والتى تُعرف أيضاً بالخُرَّاجْ - لا يُشفى منها إلاَّ بالقضاء تماماً على ( بؤرة الصديد ) التى هى ( أم القيح ) أو بالمعنى المجازى والأدبى ( بيت الداء ) ؟ّ! وأتذكر أن جدتى كانت تحرص كل الحرص على إستئصال ( أم القيح ) هذه من جذورها كلما كانت تقوم ( بعصر ) الدمل أو الخُرَّاجْ الذى يظهر على الجلد ، وكانت تقول أنه لو لم يتم القضاء عليها تماماً فإن هذا الدمل أو الخُرَّاجْ سوف يظل موجوداً ولن يختفى ؟!
وهذا هو واقع الحال فى موضوع الساعة الذى بات يشغل بال وضمير العالم بأسره ، ألا وهو الإرهاب بكافة أشكاله وأنواعه التى منها البدنى والفكرى والمعنوى ، هذا الإرهاب سوف يستمر ويستشرى ما لم يتم القضاء على مصادره من الجذور وإستئصالها تماماً مثل عملية إستئصال ( أم القيح ) ؟!
*** صُدمت كما صُدم كل من يمتلك أبسط الأحاسيس والمشاعر الإنسانية بجريمة حرق ( معاذ الكساسبة ) حيَّاً ؟ّ! وأنا هنا لن استطيع ولا حتى أريد أن أزيد ولو حرفاً واحداً على الكلمات التى كُتِبَتْ والتى قِيلَتْ عن هذه الجريمة ، وبخاصة عندما تُصْبِحُ الكلمات غير ذات هدفٍ إلَّا للشجب والإستنكار والتنديد ، وللتعبير عن الأسف والأسى والحزن ، وأيضاً للإنتقام والتهديد والوعيد ؟!
نعم فلقد أصبحت الكلمات مجرد أوانٍ جوفاء وخاوية حتى ولو إمتلأت وأزبدت ، كلمات مجدبة وعاقر حتى لو حملت وأنجبت ، بنينها وبناتها مجرد صرخات غضب وأنَّات سُخط وزفرات حزن وألم ؟! بل وحتى ( كلماتى هذه التى أسطرها هنا ) ليست بالجديدة أو المُجدية ، فلقد صرخ بمثلها بل وبأقوى منها الكثيرون من قبلى ، ولكنها لم تجد لها نفعاً ولا صدى ولا مردوداً حتى الآن ؟! فقط لأننا قد أصبحنا لا نملك إلَّا صناعة الكلام وصرخات الغضب والتحسر والحزن والأنين ؟!
*** ( معاذ الكساسبة ) لم يكن أول من طالتهم جرائم الذبح والقتل والحرق والإبادة والخطف والتهجير القصرى ، وكم كنت أتمنى أن يكون آخرهم ، ولكن للأسف المذابح والجرائم الأخرى ما زالت تجرى وتدور هنا وهناك ؟!
• تنظيم القاعدة ، طالبان ، منظمة الشباب ، بوكو حرام ، جماعة أنصار بيت المقدس ، كتائب القسام ، الجيش الإسلامى الفلسطينى ، دولة الخلافة الإسلامية ( داعش ) ، هذه الجماعات وغيرها ما هى إلَّا الدمامل والبثور والتقيحات التى أفرزتها ( أم القيح ) أو ( بؤرة الصديد ) ؟!
القضية الآن تتبلور وتدور حول ( أم القيح ) أو ( بؤرة الصديد ) التى هى ( بيت الداء ) الدى أفرز أفراد هذه الجماعات المختلفة فى أسماءها ، والموحدة فى فكرها ومنهجها الذى يندرج تحت أيديولوجية واحدة ألا وهى حماية الدين من الذين يتبعونه إسماً وليس عملاً ، وإقامة وتطبيق شرع الله على الذين لا يتبعونه أصلاً والذين هم من الكافرين بحسب إعتقادهم ؟!
وهنا تكثر الأسئلة وتتوالى ، سؤال لا تجد له جواباً ، ويتبعه سؤال آخر أشد جدلاً وتعقيداً ، من هم أفراد هذه الجماعات وكيف تكونت ؟ من هم الذين وراءهم ؟ ومن أين لهم بكل هذا العتاد وهذه الأسلحة والمعدات وأحدث الآلات التقنية والقتالية المتقدمة ؟ ما هى أهدافهم الخفية التى تستتر وراء أهدافهم المعلنة ؟ والسؤال الأكثر أهمية هو عن هذا التوقيت الزمنى الذى ظهرت فيه هذه الجماعات والذى يكاد يكون متزامناً ، بمعنى أن الفترات ما بين ظهور جماعة وأخرى نجد أنها غير متباعدة زمنياً ؟! هل العمليات الإرهابية وجرائم القتل التى دارت فى كندا وأستراليا وفرنسا وسيناء فى مصر دارت كلها وفق جدول زمنى مدروس مسبقاً ومعين ومحدد ؟! ولماذا لم يُعلن عن حرق ( معاذ الكساسبة ) حيَّاً إلَّا بعد مرور فترة شهر من تنفيذ هذه الجريمة البشعة ؟! وهنا يبرز سؤال آخر مُحير وأشد غرابة ؟! وهو عن أسلوب القتل الجديد الذى أُتبع فى حالة ( معاذ الكساسبة ) الذى تم حرقه ( حيَّاً ) ، بينما كان القتل بالذبح وقطع الرقاب وأحياناً بإطلاق الرصاص هو الأسلوب الذى أتبع مع كل الرهائن الذين كانوا فى قبضة ( داعش ) ؟!
*** وعلى الرغم من إصابتى بالغثيان والإشمئزاز ووجع القلب من كل الذى يحدث ويدور من جرائم قتل وذبح وحرق وتفجيرات هنا وهناك ، إلَّا أننى يجب أن أعترف بأننى أحسن حالاً من الكثيرين الذين فُجعُوا فى ذويهم ، أحسن حالاً من أبِ شاهد إبنه يُحرق حيَّاً ؟! من أم كانت تتمنى عودة أبنها لحضنها تشبعه تقبيلاً وتمسح وجهه بدموع الفرح ؟! ومن زوجة فقدت زوجها ورفيق حياتها ؟! ومن أبناء لن يعودوا يرون أباهم ويلعبون معه بعد ؟! ومن أصحابٍ فقدوا صديقاً عزيزاً كان يُشيع فيهم ومعهم روح المرح والبهجة وحب الحياة ؟!
وتبقى الأسئلة التى لا تجد لها جواباً ، وتكثر حولها علامات الإستفهام والتعجب ؟!
• إلى متى سوف تظل هذه الغمامة السوداء الكثيفة تحجب نور الحق والخير والسلام ؟!
• متى يتحرر هؤلاء المغيبة عقولهم من سيطرة الذين يدعون أنهم سدنة الدين والحافظين لتعاليم وتراث الأولين ؟!
• من أقامهم وكلاء على الآخرين بينما هم لا يصلحون حتى لأن يكونوا وكلاء على أنفسهم ؟!
• متى يتفهمون أن إعلاء شريعة الله وفرائضه ليست بالقتل والذبح والحرق والسلب والنهب ؟!
• متى يدركون أن علاقة الإنسان بخالقه هى علاقة إبن بأبيه ، لا تحتاج إلى أية رقابة أو توجيه ؟!
• هل يعرفون أنهم بأفعالهم المشينة هذه والتى لا تقرها أية شرائع سماوية أو قوانين وضعية ، يسيئون للدين والعقيدة أكثر مما يعتقدون أنهم يخدمونه ؟!
• هل حقاً يؤمنون بأن الله ( القوى والجبار والمهيمن ) ؟! هو وحده القادر ( إذا شاء ) أن يحفظ ويصون شرائعه التى وضعها من أجل البشرية ، وبأنه ليس بحاجة لمن يقتل ويذبح ويحرق للزود والدفاع عنها ؟!
***
الأسئلة لا تنتهى ، ويقينى أنها لن تنتهى ما لم يتم إستئصال ( أم القيح ) أو ( بؤرة الصديد ) التى تم زرعها فى عقول هذه الشرذمة من الأفراد - المحسوبين على جنس البشر - من جذورها ، وأيضاً ما لم يتم القضاء على ( رأس الأفعى ) التى بثت سمها فيهم وخلطت دماؤهم ولوثت عقولهم وأفكارهم بالقيح النتن والصديد العفن ؟!