منذ نشوء الدولة الإسلامية في المدينة في صدر الإسلام وحتى سقوط الخلافة العثمانية في عام 1923، لم يكن الانتماء لبقعة جغرافية معينة يكفل لصاحبه حقوقاً أو يفرض عليه واجبات قانونية تميزه عن شخص آخر ينتمي إلى بقعة جغرافية أخرى تقع ضمن حدود الخلافة. ذلك أن التمييز داخل الخلافة الإسلامية كان يستند إلى ضرورة التمييز بين المراكز القانونية على أساس الدين. فالمسلمون مثلاً يتمتعون دون غيرهم من سكان أراضي الخلافة بحق الولاية؛ أي أن يكون من بينهم الحاكم، ولا يحق لغير المسلم أياً كان موطنه أن تكون له الولاية على المسلمين. من دون أن يعني ذلك أن أحوال غير المسلمين في ظل الخلافة الإسلامية، كانت سيئة. بل إنني أزعم - إذا وضعنا في اعتبارنا السياق التاريخي- أنها كانت أفضل من أحوالهم في ظل الدولة الحديثة التي من المفترض أن تقوم على مبدأ المواطنة؛ أي على أساس المساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين جميعاً من دون تمييز على أساس اللون او الدين أو العِرق أو اللغة أو الطبقة الاجتماعية.
وللتدليل على زعمي هذا، سأستعرض سريعاً تاريخ انتهاكات حقوق المواطنة الخاصة بالأقباط.
يبدو أن زعامة جمال عبد الناصر محت من مُخيلة أي مصري أن ينافسه في تلك الزعامة، لم يكن ممكناً سوى الود والتعاون وهو ما تعكسه صورة ناصر وإلى جواره البابا كيرلس السادس والإمبراطور هيلا سيلاسي؛ إمبراطور إثيوبيا وقتئذ لمناسبة وضع حجر الأساس للكاتدرائية الجديدة للأقباط بمساهمة مالية من الدولة المصرية قدرها مئة ألف جنيه، وذلك عام 1965. ويمكن اعتبار عصر عبد الناصر العصر الذهبي للأقباط مقارنة بما تلاه من عصور، من دون أن نتناسى ذلك التوجس الذي كان يشعر به الأقباط نتيجة خلو تنظيم «الضباط الأحرار» من أي ضابط قبطي، ونتيجة لصلة كثير من ضباط التنظيم بجماعة الإخوان المسلمين.
أما علاقة السادات بالبابا شنودة، فقامت منذ البداية على أساس التناحر بين شخصيتين تريد كل منهما أن تثبت لنفسها وللآخرين أنه لا مجال لسواها على بساط الزعامة، فوقع الخلط بين حدود الزعامة السياسية والزعامة الروحية. ومن ثم كان الاتهام بالتآمر متبادلاً بين الرجلين. وكان هذا التناحر إيذاناً بانطلاق قطار الحوادث الطائفية في عصر السادات، فكانت أحداث الخانكة في تشرين الثاني (نوفمبر) 1972 المحطة الأولى لهذا القطار المشؤوم. يصل قطار الفتنة الطائفية سريعاً إلى محطته الثانية في عصر السادات، مع أحداث الزاوية الحمراء في العام 1981. وهي المحطة الأخطر، إذ راح ضحيتها وفق زعم السادات نفسه 9 قتلى من الأقباط، بينما كانت جريدة «الأهرام» تتحدث عن حوالى ثمانين قتيلاً وفق تصريح حسن أبو باشا؛ وزير الدخلية الأسبق، أما الصحافة العالمية فكانت تتحدث عن أكثر من مئة قتيل قبطي. ومكمن الخطورة في هذا الحادث ليس فقط في ارتفاع عدد القتلى، وإنما أيضاً في إحساس الأقباط بتواطؤ الأجهزة الأمنية برئاسة النبوي إسماعيل وزير الداخلية وقتئذ، وكأنها كانت رسالة تأديب من السادات للبابا شنوده الذي رفض الذهاب معه إلى القدس وأعلن رفضه اتفاقية كامب ديفيد.
وعلى رغم أهمية علاقة التناحر بين السادات والبابا شنوده في تفسير العنف الطائفي في مصر، فإن هناك عاملين أكثر فاعلية وقدرة على التفسير، لأنهما عاملان يتجاوزان ما هو شخصي إلى ما هو سياسي واستراتيجي. وهذان العاملان هما أولاً تغيير السادات الاستراتيجي للعلاقة مع إسرائيل من العداوة إلى السلام، وثانياً تغييره للسياسات الاقتصادية باتباع سياسة الانفتاح الاقتصادي أو على حد تعبير أحمد بهاء الدين ساخراً «سياسة سداح مداح». ويمكننا أن نلاحظ أن هذين المتغيرين صحبهما صعود في معدلات الفساد وضعف حاد في منظومة القيم المصرية، لكن، ويا للمفارقة، مع صعود كبير للتيارات الأصولية الإسلامية في مصر، وهي تيارات معروفة بعدائها لفكرة المواطنة، فضلاً عن تربصها بالأقباط وبحقوقهم تحديداً!
آثار هذين المتغيرين (السلام مع إسرائيل وسياسة الانفتاح سداح مداح) وما صاحبهما من هيمنة التيارات الأصولية على المجتمع كبديل للدولة الغائبة، بدأت مع السادات وتفشت مع مبارك، حتى غدا مبارك «كنز إسرائيل الإستراتيجي»، وأمسى الفساد من علامات عصره، كما أصبحت التيارات الأصولية أكثر حضوراً في المجتمع من أجهزة الدولة نفسها، ما أسفر عن انفجار اجتماعي وسياسي تمثل في ثورة 25 كانون الثاني (يناير) 2011، ولا زالت مصر حبلى بالأجنة المجهضة منذ ألقى السادات في بطنها - في غفلة منها - بالسلام مع إسرائيل والانفتاح المنفلت والتيارات الأصولية!
لهذا كله، ولغيره من الأسباب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، لم يمر أكثر من أربعة وعشرين يوماً على حادث كنيسة القديسين في مستهل العام 2011 حتى كان شباب الأقباط كتفاً بكتف مع بقية الثوار، فكانت الثورة المصرية في أحد معانيها ثورة الشباب القبطي على اختزال الأقباط في شخص البطريرك، وإجبارهم على الاستعاضة عن الوطن المفقود بالكنيسة!
وبينما حسم شباب الأقباط موقفهم من نظام مبارك المستبد بالنزول لميدان التحرير كانت الكتلة التقليدية من الأقباط تحذو حذو الكنيسة في موقفها من فكرة الثورة على نظام ترى فيه رغم كل أشكال الاضطهاد التي مارسها ضد الأقباط نظاماً أفضل من مجيء الإسلاميين إلى الحكم على أكتاف الثوار!
وأياً كان موقف هذا الفريق أو ذاك من الثورة، فإن المصريين، وفي القلب منهم الأقباط، لن ينسوا أن الحوادث الطائفية توقفت تماماً فقط خلال الثمانية عشر يوماً التي وقفوا خلالها يداً واحدة لإسقاط نظام مبارك.
في المقابل لن ينسى الأقباط تحديداً ارتفاع وتيرة الحوادث الطائفية وحرق الكنائس والتحريض ضدهم على شاشات التلفزيون المصري خلال الفترة الانتقالية الأولى 2011-2012؛ فهل كان هذا سوى تأديب جديد للأقباط المشاركين في ثورة 25 يناير؟! كما لن ينسى الأقباط في الوقت نفسه تزايد حدة العنف ضد الكنائس عقب إسقاط محمد مرسي؛ فهل كان هذا سوى تأديب جديد للأقباط على مشاركتهم في ثورة 30 حزيران (يونيو) التي نزعت الشرعية عن مرسي؟!
طرح هذا السؤال سيقودنا حتماً إلى القول إن الأقباط لم يكونوا سوى ورقة يلعب بها لتكسير العظام كلٌ من الإسلاميين ونظام 23 تموز (يوليو) الذي أسسه تنظيم «الضباط الأحرار» في العام 1952 ومازال مستمراً في شكل من الأشكال. لكن الأكثر مدعاة للحزن أن طرفي اللعبة لم يعودا وحدهما أصحاب قرار إنهائها؛ لأن أطرافاً دولية أصبحت أكثر فاعلية في هذا الصراع مما كان عليه الأمر في الماضي؛ لهذا نعتقد أن ما قام به تنظيم «داعش» من ذبح 21 مصرياً قبطياً ليس الحلقة الأخيرة في مسلسل تأديب الأقباط على مشاركتهم في ثورتي 25 يناير و30 يونيو سعياً نحو وطن كامل السيادة يكفل لهم حقوق المواطنة.
نقلا عن الحياة