الأقباط متحدون - ما يدمي القلوب و... العقول أيضاً
أخر تحديث ٢٣:٠٦ | الأحد ٢٢ فبراير ٢٠١٥ | ١٥أمشير ١٧٣١ ش | العدد ٣٤٨١ السنة التاسعه
إغلاق تصغير

شريط الأخبار

ما يدمي القلوب و... العقول أيضاً

 نهلة الشهال
نهلة الشهال

تصاب أوروبا بالذعر لوجود «داعش» على تلك المسافة القريبة منها: 300 كلم بين شواطئ ليبيا وجزيرة صقلية الإيطالية! مرمى حجر. ما يمكن اجتيازه في زوارق صيد بدائية. لذا تقارب الهيئات السياسية الدولية بحذر المعالجة «الفضلى» لهذه المصيبة التي خرجت إلى العلن في شكل لم يعد يمكن إنكاره بعد ذبح الـ21 مصرياً على شاطئ البحر المتوسط الذي اصطبغت مياهه بلون الدم الأحمر، فعلاً وليس مجازاً.

ترى هل تَقصَّد «داعش»، الذي يعتني دوماً بالإخراج ويهتم برمزية أفعاله، أن يكون الذبح عند خط تلك المياه المشتركة؟ لا سيما وأن المذبوحين مسيحيون أقباط، يعتبرهم «داعش» «صليبيين» وفق بيانه، و»الصليبية» هنا تشير في آن إلى أوروبا التي جَردت حملات صليبية (كما أسمتها هي نفسها) على منطقتنا (ولو منذ أكثر من عشرة قرون!) وإلى الرمز الديني «المشترك» (افتراضياً) بينها وبين هؤلاء العمال المساكين.

هنا لم تتبرع فرنسا ولا سواها بدعوة المسيحيين المصريين إلى الهجرة إليها بخلاف ما وُجه إلى المسيحيين العراقيين مثلاً. لعل السبب هو ضخامة عدد الأقباط والبؤس الهائل لمعظمهم، فلاحين بلا أرض، أو أشباه متبطلين في عشوائيات المدن المصرية الكبرى.

زوارق الصيد لم تكفّ منذ سنوات عن اجتياز تلك المسافة، من نقاط على امتداد الشاطئ الليبي الطويل تحديداً، باتجاه صقلية التي اشتهر منها ميناء لامبيدوزا حتى صار اسمه صنو الهجرة البائسة إلى الجنة الأوروبية. الشواطئ التونسية أقرب قليلاً ولكن العقيد القذافي كان يغض الطرف عن تلك الهجرات، إن لم يبحها كما «هدد» علناً أحياناً، لابتزاز إيطاليا وأوروبا، ولتمتين علاقاته بسلطات أفريقيا السوداء التي يأتي منها جل المهاجرين، وهو حامل لقب «ملك ملوكـ»ـها، بينما لعبها نظام بن علي بطريقة أكثر تحفظاً.

وإن كان المهاجرون هؤلاء لم يُذبحوا، فقد غرقوا بعشرات الألوف، وأعطوا البحر المشترك ذاك تسمية «المقبرة الأكبر في العالم».

لذا فاكتشاف قرب المسافة ليس جديداً حقاً، لكن عنوان المخاطر تغيَّر، وتغير معه ذلك الافتراض بأن «داعش» البشع بعيد، يرتكب أفعاله في أراض وعلى شعوب يُحسَب عدد ضحاياها بالجملة، أو لا يُحسب أصلاً إلا شكلياً.

وكان الغرب قد اكتشف منذ «11 سبتمبر» أن التقدم التقني يسمح بهجمات طائرة وخاطفة. ولكنها كانت خارجية أولاً، وكان التحصين ضدها ممكناً ثانياً، بفعل تدابير أمنية ذات طابع تقني هي الأخرى، أكثر بكثير من النتائج البائسة للحروب المهولة التي شنت باسم «الحرب على الإرهاب»، والرد وتلقين الدروس، وهي تسميات مهذبة لمفاهيم الثأر والانتقام و»شفاء الصدور».

كانت تلك خصائص حقبة «القاعدة»، التي ولد «داعش» من رحمها، مستهدفاً الأقربين بوصفهم «الأولى بالمعروف»، من دون إسقاط حلم المسرح الدولي الذي رعته القاعدة.

أميركا بعيدة ومسيجة بمحيطين هائلين وبتدابير مستقاة من تلك التجربة المريرة (ما لا يلغي المخاطر والمفاجآت)، أما أوروبا فعلاوة على حقيقة مرمى الحجر ذاك، موطن ملايين المتحدرين من الهجرات إليها من أبناء مستعمراتها السابقة خصوصاً. وإلى ذكريات مآسي الحقبة الاستعمارية أضيف ذلك الشعور بالضيم الذي لم يتوقف للحظة عن التعاظم، بسبب شقاء الأجداد والآباء الذين جاؤوا للعمل في المناجم والمصانع والبناء، مدفوعين بالعوز في بلدانهم المنهوبة من المستعمِر، راضين بأجور زهيدة ومتخلين عن أي حقوق أو ضمانات، فأفنوا أعمارهم بصمت في الأشغال الشاقة، ليجد أحفادهم أنفسهم متكدسين في ضواحي المدن الكبرى، يسكنون في عمارات بائسة ويواجهون بطالة تصل إلى ضعف النسب الوطنية العامة، وتمييزاً بسبب لون البشرة والدين، إن لم يُقل اسمه صراحة، فآلاف الاختبارات والاستقصاءات رصدته وسجلته وأعلنت عن وجوده. بل هو بات يقولها صراحة مع صعود اليمين الفاشي وشبه الفاشي، وانتشار إيديولوجيته الكارهة للغرباء في أوساط اليمين التقليدي وأطراف اليسار نفسه.

شغلت أوروبا بداية ظواهر فردية ما زال الشك بوجود افتعال في بعضها قائماً، كما في حالة محمد مراح الذي قَتل أفراداً من الشرطة وضحايا في مدرسة يهودية في ضاحية مدينة بوردو الفرنسية عام 2012، ليُقتل برصاص قوات النخبة، وصولاً إلى حوادث شارلي إيبدو والمتجر اليهودي في باريس مطلع هذا العام، وما يشابهها في بلدان أوروبية أخرى، ولو بضجيج أقل وعلى نطاق أضيق. ثم كان القلق حيال تكاثر أعداد الشبان والشابات الهاربين للالتحاق بـ «الجهاد» في سورية (ما كان قد بدأ مع احتلال العراق عام 2003)، ومنهم من لم يكن متحدراً من آباء مهاجرين، بل متأسلماً مستجداً استهواه «داعش» وأشباهه.

كان القلق يخص ما يمكن أن يرتكبه هؤلاء لو «عادوا»، على رغم النقاش حول الأسباب التي دفعت شباناً ولدوا في أوروبا إلى هذا «الانفصام»، كما لو كان الأمر جينياً! وهي النظرية التي يقولها اليمين المتطرف، فيما يتكلم الأكثر اعتدالاً بتهذيب عن الأثر الثقافي للمنبت، والفارق بين التصورين ضئيل.

ولمحاسن الصدف، وفيما يجري تقليب كل ذلك، انفجرت في باريس منذ يومين فضيحة طرد «الشيباني» من أحد مآويهم التي يستأجرونها، بحجة تداعيه. وهو كذلك منذ عشرات السنين، تسرح فيه الجرذان والصراصير ويتهدده الحريق. «الشيباني» ليست كلمة فرنسية أصيلة وإنما متبناة، تعني من غطى الشيب رأسه. هؤلاء عملوا في المناجم والمصانع وبعضهم يقيم في هذا المأوى منذ خمسين عاماً. هؤلاء خضعوا لعقود عمل مجحفة ولم يُمنحوا الجنسية الفرنسية على رغم خدماتهم وطول إقامتهم. نُقل المطرودون إلى مآوي أخرى بالطبع، إذ تابعت جمعيات متخصصة قصتهم، ناعية العنف المجاني الذي صاحب طردهم، وراوية بالمناسبة قسوة مسيرة حيواتهم التي تفطر القلب: عمال سابقون، جرى استغلالهم ببشاعة وهم اليوم في فقر مدقع، ومعظمهم مريض ووحيد، ويتجاوز عددهم الـ800 ألف في فرنسا وحدها. بعض التلفازات وكل الصحف نقلت مشهد هؤلاء «الشيبان» وهم زائغو الأبصار من الدهشة، فيما قوات الشرطة الخاصة! تخرجهم من غرفهم المزرية قبل انبلاج ضوء النهار، وترمي بأمتعتهم في شاحنة وتضع أقفالاً على الأبواب.

هل فكر أحد في ربط المشهد بما سلف من جنوح بعض الأحفاد للالتحاق بالإرهاب؟ من المؤكد أن الرابط غير كافٍ ولكنه جزء (أساسي) من كل!

نقلا عن الحياة


More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع