( أحد الأبانا والكنوز)
القمص اثناسيوس جورج
يأتي استعداد الصوم كمحطة للرفاع ، لرفع الاهتمام باستعداد لدخول ميدان طلب بر الملكوت ، وهو استعداد حربي على ( جبل تجربة الحياة) نرفع فيه حياتنا بجملتها لنعيش حياة البر الحقيقي الذي ينحصر في طاعة الوصية الإلهية ، حيث أن الله مخفي في وصاياه ، وتبعيته تأتي مع ( الكنيسة) ضمن جيش الصوامين المجندين له من دون ارتباك ، ليحيوا فيما تجندوا له من غير انقسام ؛ رغم كل الظروف ، وهو ما تم التعبير عنه بإعلان " احترزوا من أن تصنعوا " أعمال التقوى الحقة من (صوم وصلاة وصدقة) ، طلبًا للمجد الفارغ والشهرة والنجومية ، لأن عبادتنا ليست تمثيلاً ونظارة أو فُرجة مسرحية ؛ كي ينظرها الناس ، فنفقد أجرتها وبركتها وقيمتها الروحية العملية .
إنه درس الاستعداد العميق الذي نقدمه في ذبيحة الخفاء إكرامًا وكرامة للذي صام عنا ... وهذا الدرس تحذيري لكل من لا يسأل نفسه ، لماذا أصوم ؟؟ وهل أنا حقًا صائم ؟؟ وكيف أصوم ؟؟ وكيف أنتفع من الصوم ؟؟
لذا نتدرب في استعداد الصوم على الخفاء الحي والمثمر " بالروح والحق " ، حتى لا تكون عبادتنا وصومنا وصدقتنا مغشوشة وريائية . المراءاة مرض خبيث وهو مزيج من نقيصة خلقية مختفية في فضيلة ، نغش بها أنفسنا أولًا ثم الآخرين ، لكننا عندما نصنع عبادتنا وخدمتنا من دون أصوات الأبواق ننال كيلاً جيدًا ملبدًا مهزوزًا وفائضًا بمجازاة علانية من الآب السماوي .
لذلك علمنا صلاته الربانية " الأبانا " ، وأوصانا بها " ومتى صليتم فقولوا " فصلوا أنتم هكذا" ، والتي صارت هي قانون صلاتنا ومديحة صومنا ومرد عبادتنا وأول قراءات طقس الصوم . ككنز العهد الجديد للدخول إلى الأقداس : يتقدس الاسم ، ويتمجد الملكوت ، وتتكمل المشيئة ، متوسلين من أجل خبزنا الجوهري الباقي ومن أجل خبزة كفاف يومنا ؛ مادمنا تحت الطبيعة واقعين لحاجاتها ، كذلك طالبين مغفرة خطايانا وغلبتنا لتجارب إبليس وسهامه الملتهبة نارًا ، بالمسيح يسوع ربنا الملك القوي الممجد ، ونختتم الصلاة بذكصولوجية التمجيد اللائق بلاهوته والمملوء خلاصًا .
هنا نأتي إلى نقلة إلتفاتنا لكنزنا السماوي الذي لا يُفسده سوس ولا صدأ ، والذي لا يسرقه السارق ... ليكون كنزنا في صنع أصدقاء بمال الظلم ، ويتحول رصيدنا إلى بنك المظال الأبدية . كنزنا وكنز كنيستنا في أعمال التوزيع ( فرقَ أعطىَ المساكين ؛ بره يدوم إلى الأبد ) ، كنزنا مدخر في ستر الأجساد ورعاية الأرملة واليتيم والغريب والضيف ، إذ أنه ذات عائد سماوي بأعلى فائدة مركبة ومضاعفة ومضمونة ... تلك التي نراها بيقين ؛ متى كانت عيوننا بسيطة خيّرة وخبيرة ومميزة للحق وللنور الدائم ، عيون كنزها ليس في الأرصدة ولا في مفاخر المباني ولا في بذخ الحفلات والمنتجعات والمقتنيات ، لكن كنزها في الفقير الأبدي الصادق والأمين ، والذي يعطي جعالته بالأجر السماوي غير المغشوش .
إن العين المدربة هي مجال تدريبنا في بداية استعداد رحلة الصوم ، لنرى بها أين يكون قلبنا ومن ثم كنزنا ؟! وهي فرصة لنداء صومي سنوي يتكرر ، من أجل قياس النظر والبصر ، للكشف عن الأركان الضعيفة ، وللوقوف على ما ينتاب رؤيتنا من ضعف وتقصير.. فيأتي أحد الكنوز بصوت موقظ لنا ، حتى لا يكون كنزنا ترابًا يوارينا لحافًا ولحدًا ، وحتى نتدارك باستعداد الصوم ونتمثل بالآب السماوي ، الذي هو كنزنا وسراج عيوننا ، وبه نحدد بوصلة حياتنا.
إن الصائم الذي يستعد ليبحث عن كنزه ، تشير له الكنيسة مؤكدة بأنه لن يجده قط إلا في أبيه السماوي ، الذي تبنانا وأعطانا ميراث ملكوته ، وهو يبدأ فينا من الآن ، عبر عبادة الخفاء فلا نهتم ولا نغتم بهموم العالم وغرور غنى التخزين والاكتناز والشهوات التي تخنق كلمة الله داخلنا . مستعملين العالم وكأننا لا نستعمله ، نستعمله لكن لا يستعبدنا لأن هيئته ستزول ، ومسيحنا يعدنا بضمانة تأمين الحياة كلها ، كي لا نهتم بما نأكل أو نشرب ... لأنه هو كنزنا وشبع أرواحنا وقد ألبسنا ثياب الخلاص وكسانا رداء البر وزين نفوسنا بالحلي الذي من عنده ... آدم الثاني الذي غلب لحسابنا على جبل التجربة بصومه غير المعاب ، بينما آدم الأول انغلب ليس على جبل لكن في الفردوس ، ونحن ننتقل بتدبير آدم الثاني مخلصنا من جبال التجارب إلى فردوسنا المستعاد .