نسيم مجلى
هذا كتاب هام فى تاريخ الفكر السياسى صدر عام 2014 فى أمريكا بعنوان: المنظرة الكبرى، يتناول بداية ظهور اتيارى اليسار واليمين فى الفكر السياسى الحديث ، ويستعرض الصراعات والمجادلات التى نتجت عن ذلك ، كما يعرفنا بأقطابها الكبار مثل إدموند بيرك وتوماس بين من دعاة التطورالتدريجى ودعاة الثورة وأهتمام كل منهما بقضايا التحرر والعدل الآجتماعى . وهى تجارب يهمنا التعرف عليها ودراستها خصوصا ونحن نتهيأ لبناء مجتمع مدنى حديث يقوم على الديموقراطية والعدالة الآجتماعية.
ولعل فى العرض التالى للكتاب ما يؤكد أهميته من الناحية الفكرية والسياسية.
نشأة اليسار واليمين فى الفكر السياسى
كتاب
The Great Debate:
Edmund Burke, Thomas Paine, and the Birth of Left and right.
المناظرة الكبرى : إدموند بيرك، توماس بين ، ونشأة اليسارواليمين
تأليف : يوفال ليفين Uval Leven
المؤلف مفكر أمريكى أكاديمى اسرائيلى المولد، درس العلوم السياسية فى الجامعة الأمريكية وحصل على درجة الدكتوراه من لجنة الفكر الإجتماعى بجامعة شيكاغو. عمل بالصحافة وساهم فى تاسيس مجلة " National Affairs " كما ساهم فى تأسيس مجلة " New Atlantis" ولايزال هو رئيس تحريرها .وليفين محلل سياسى بارز يعتبر أكثر المفكرين المحافظين تأثيرا فى عهد الرئيس أوباما . وله كثير من المقالات التى تدور حول النظرية السياسية، والعلوم، والتكولوجيا ، والسياسة العامة.
وقد وضع يوفال ليفين ثلاثة كتب على قدر كبير من الأهمية هى: طغيان العقل ، تصوير المستقبل ، وكتاب ،المناظرة الكبرى: إدموند بيرك وتوماس بين ، الذى بين أيدينا . والكتاب يتناول ذلك الصراع الفكرى الذى احتدم بين إثنين من مفكرى القرن الثامن عشر. فإدموند بيرك (1729-1797) سياسى بريطانى عرف بعدائه الشديد للثورة الفرنسية بسبب الفظائع العنيفة التى ارتكبت فيها . أما توماس بين ( 1737-1809) فهو زعيم سياسى من زعماء الثورة الأمريكية، بريطانى المولد من أثاره كتاب: "حقوق الإنسان Rights of Man "
أثار كتاب " المناظرة الكبرى " اهتمام عديد من الصحف الأمريكية، فتناولته فى عروض وأحاديث مختلفة. وقد اخترنا ماكتبه ميشيل جيرسون فى جريدة الواشنطن بوست لنقتبس بعض فقراته، حيث يصف ليفين بأنه أحد الرواد الشباب فى تفسير أفكار المحافظين البريطانية. ويقول إن كتابه ، يتناول المباراة بين تيارات الفكر المحافظ ،ونظريات الإصلاح الجذرى، فى ترابط تاريخى متماسك منطقيا.
ففى هذا الكتاب يحكى ليفين قصة التنافس غير الودى بين الأباء المؤسسين لتيار الفكر المحافظ وبين ألمؤسسين لفكر الليبرالية الحديثة. ويمتدح توماس بين "على قدرته على استدراج جمهور القراء فى تواضع جم وتشجيعهم على الدخول فى علاقة تشابك مع المسائل الفلسفية العميقة ".
ويقول إن هذا أيضا من عبقرية ليفين ككاتب، إذ يقدم لنا توماس بين كمهيج جماهيرى لا يهدأ من أجل الحرية، لأنه كان مقتنعا بأن الحكومات ينبغى هدمها وإعادة بنائها طبقا لمبادىء الإستنارة العقلية، وذلك على العكس من إدموند بيرك الذى كان يحرص على تحقيق أكبر استفادة من المؤسسات المادية القائمة فى وطنه.
يعطى ليفين كلا من المفكرين حقه من التقدير، لكن هذا لايخفى حقيقة أن الأمال السياسية العظمى التى كان يسعى وراءها توماس بين تعد شيئا مرعبا ومخيفا، وقد كشفت الأيام عن حقيقة مخاوف بيرك, وأثبتت أنها كانت نبوءة صحيحة، بعدما ظهر من عنف الثورة الفرنسية.
لكن القصة المعقدة التى يحكيها يوفال ليفين فى هذا الكتاب تقدم تصحيحات كثيرة تخص المحافظين أيضا، تتعلق بطبيعة الفكر المحافظ ذاته . فقد كان بيرك مصلحا من حزب المحافظين وانتقد الحرب ضد أمريكا ودافع عن حقوق الكاثوليك، وعارض الممارسات غير العادلة التى تقوم بها القوى الإستعمارية فى الهند، وكان من أوائل المنتقدين لنظام العبودية.
لكنه كان أجنبيا على المستوى الإجتماعي لأنه يتميز بشعره الأحمر ، ولهجته الأيرلندية وأمه الكاثوليكية, وكذلك اخته وزوجته.
يؤكد المؤلف على أن علوم السياسة الحديثة ظهرت أولا فى شكل مجادلات بين نوعين من المفكرين المحافظين ،كتيارين لليبرالية – يسمي أحدهما " الليبرالية التقدمية " و الآخر"الليبرالية المحافظة " وكلاهما حركتان حديثتان متميزتان، ملتزمتان بالحرية والاصلاح، لكنهما مختلفتان اختلافا واضحا فى كيفية تحقيق الاصلاح. أحداهما تمثل دعاة التحرر الجذرى عن طريق الثورة، وهم الذين أيدوا الثورة الفرنسية حتى بعد أن ظهر عنفها. والآخرى تمثل دعاة التطور التدريجى.
يشبه ليفين هذه الانقسامات الأيديولوجية بفروع العلوم . فمنهج توماس بين أشبه كثيرا بنظريات العلوم الفزيائية عند نيوتن، بما يعنى استخدام القوانين العقلية المجردة والطرق العلمية فى إعادة بناء المجتمع، فى حين يبدو علم السياسة عند بيرك أشبه كثيرا بالنظرية الثورية – بما يعنى التحرك فى طفرات تدريجية بأسلوب يعكس الحكمة الموروثة للكائنات البشرية. فالكائنات البشرية تعيش فى شبكة من العلاقات الاجتماعية التى كانت موجودة قبل أن نوجد وسوف تظل موجودة بعدنا.
ومهمة الحكومات هى أن تحمى وتقوى هذه البنايات لا أن تمزقها جريا وراء نظريات مجردة عن فكرة الحرية.
هذه الرؤى المتصارعة – بين السياسة باعتبارها من علوم الفيزياء وبين السياسة باعتبارها نظرية ثورية- تنعكس حاليا فى مجادلات حديثة بين اليمين واليسار.، وهذا مايراه يوفال ليفين. ورغم أنه مؤرخ يتميز بالنزاهة العقلية، إلا أنه ليس محايدا فى هذه المناظرة الكبرى لأنه يسعى –كمايرى ميشيل جيرسون-إلى إعادة بناء تيار محافظ اجتماعيا communitarian conservatism يأخذ مطلب الإصلاح مأخذا جادا وليس مجرد القيام بالمعارضة فقط لأن ذلك هو ميدان بيرك.
والكتاب يحتوى على مقدمة وسبعة فصول هى :
1- حياتان فى حلبة الصراع
2- الطبيعة والتاريخ
3- العدالة والنظام
4- الإختيار والإجبار
5- العقل والتشخيص
6- الثورة والإصلاح
7- الأجيال وأحوال المعيشة